الشيخ الآصفي: روح الرسالة وعنوان الجهاد الفكري..!
علي جاسب الموسوي ||
29/11/2024
حينما نتحدث عن العظماء، فإننا لا نكتب عن أسماء تمرُّ على التاريخ مرور العابرين، بل عن أرواح حفرت وجودها في ضمير الأمة، ورسخت معاني الرسالة والجهاد في عقول الأجيال .. وآية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي (رضوان الله عليه) كان واحدًا من هؤلاء الخالدين الذين لا تتوقف سيرتهم عند حدود زمانهم أو مكانهم.
كان الشيخ الآصفي نموذجًا للعالم الرسالي الذي رفض أن يحصر العلم في بطون الكتب، بل جعله سلاحًا في وجه الظلم وجسرًا نحو بناء مجتمع الرسالة .. عاش حياته بين ميادين الجهاد وساحات العلم، فلم يكن مجرد فقيهٍ يتصدر المجالس أو خطيبٍ يصوغ الكلمات، بل كان مشروعًا كاملًا، يمزج بين الفكر والعمل، وبين العلم والميدان، وبين الفقه والواقع.
في زمن اشتدت فيه المحن على العراق والعالم الإسلامي، وقف الشيخ الآصفي موقف القائد الذي يدرك أن العلم بلا موقف هو موت صامت، وأن الكلمة التي لا تنحاز للحق هي خيانة مبطنة .. كان صوتًا قويًا في مواجهة الظلم البعثي، وقائدًا فكريًا وحركيًا ضمن صفوف الحركة الإسلامية، يزرع في القلوب بذور الأمل ويضيء العقول بنور المعرفة.
وفي المنفى، حيث أراد الطغاة أن يطفئوا نوره، حمل الآصفي هموم شعبه وعقيدته إلى حيث رحل .. لم يكن المنفى بالنسبة له عزلًا عن الأمة، بل كان امتدادًا لمسيرته، حيث حول غربته إلى منارة تضيء الطريق للآخرين .. كتب، وعلّم، وبنى مؤسسات تخدم الإنسان والمجتمع، ليكون رمزًا للعالم الذي لا ينفصل عن مسؤولياته مهما اشتدت الظروف.
لم تكن مؤلفات الشيخ الآصفي مجرد صفحات مليئة بالأفكار، بل كانت مصابيح هادية في بحرٍ متلاطم من التحديات .. كانت كلماته تعبر عن عمق فهمه لدور الإسلام في حياة الإنسان، وعن إدراكه لأهمية تجديد الفكر الفقهي، والاصول بما يتماشى مع تعقيدات العصر .. كان عالمًا يرى في القرآن الكريم مصدر كل الحلول، فقدم تفسيرًا موضوعيًا جمع بين النصوص المقدسة وواقع الناس.
ولم يقتصر جهاده على الفكر، بل تعداه إلى العمل الاجتماعي الذي جسّد به معنى التضامن الإسلامي .. وقف إلى جانب الفقراء والمحتاجين، وأسّس مؤسسات خيرية تعكس روح الإسلام في العطاء والرحمة .. كان يرى أن العمل الخيري جزء من رسالة العالم، وأن نصرة المظلومين لا تقتصر على رفع الشعارات، بل تتجسد في الأفعال التي تغير حياتهم.
وحينما عاد إلى النجف الأشرف بعد سقوط النظام البعثي، لم يعد ليأخذ قسطًا من الراحة، بل ليواصل مسيرته في التعليم والجهاد. كانت النجف بالنسبة له ميدانًا لإعادة بناء الحوزة العلمية، وقلعةً لنشر فكره الرسالي الذي جمع بين الأصالة والتجديد.
وفي لحظة الفقد، حينما ارتقت روحه الطاهرة إلى بارئها، شعرت الأمة بأن جبلًا من العلم والجهاد قد انهد، وأن صوتًا كان يصدح بالحق قد غاب عن الساحة .. لكن الشيخ الآصفي لم يمت، فالعظماء لا يموتون .. بقي أثره حيًا في كتبه، ومؤسساته، وطلابه، وفي كل فكرة زرعها في عقول من آمنوا برسالته.
إن الحديث عن الشيخ الآصفي هو حديث عن مشروع متكامل، عن عالم ميداني كان بحجم أمة، وعن رجل لم تنحصر حياته في زمانه ومكانه .. هو قدوة لكل عالم ومجاهد، ورمز لكل من أراد أن يجمع بين العلم والعمل، وبين الفكر والميدان، وبين الدين والحياة.
سلامٌ عليك يا شيخنا الجليل، يوم عشت في خدمة الدين، ويوم جاهدت في سبيل الحق، ويوم ارتقيت إلى ربك، شاهدًا وشهيدًا على رسالة لن تموت.