كيفَ انتصرَ حرْبُ الله “بدمائهِ الزكيّةِ”؟!
د. علي الدلفي ||
للإجابةِ لا بُدَّ من الغوصِ في الجوانبِ الإنسانيّةِ والرمزيّةِ التي جعلتْ من تلكَ التضحياتِ قوّةً محرّكةً لتاريخِ المنطقةِ.
فعندما يُقال “بالدماءِ الزكيّةِ”، يُقصدُ بها دماءُ أناسٍ آمنوا بأنَّ حياتهم ليستْ مجرّدَ عمرٍ يُعاشُ! بل رسالةٌ تُحملُ. استشهادهم لم يكنْ نهايةً؛ بل بدايةٌ جديدةٌ تُنقشُ في ذاكرةِ أمّةٍ بأكملها. تلكَ الدماءُ أصبحتْ رمزًا للتحرّرِ من الخوفِ؛ ورسالةً أنّ النصرَ لِمَنْ آمنَ بهِ روحيًّا. كانَ هؤلاءِ الشهداءُ ثلّةً من المؤمنينَ امتلكوا شجاعةً أذهلتْ العالمَ. وقد تركوا وراءهم عائلاتٍ وأحلامًا ليقدّموا أنفسهم جسرًا نحو كرامةِ الأمّةِ.
أهلُ الجنوبِ اللبنانيّ الذينَ تعرّضوا للعدوانِ الإسرائيليّ والقصفِ اليوميّ كانوا في مرحلةٍ ما يظنّونَ أنَّ الظلمَ واقعٌ لا يُقاومُ. هنا؛ جاءتِ الدماءُ الزكيّةُ لتكسرَ تلكَ الفكرةَ. فكلُ شهيدٍ لم يكنْ مجرّدَ شخصٍ يُفقدُ! بل صارَ نبراسًا يُضيءُ الدربَ للمنتظرينَ الذين لم يبدّلوا تبديلًا.
لَقَدْ أعادَ الشهداءُ تعريفَ مفهومِ “الموتِ”؛ إذْ تحوّلَ إلى بدايةِ حياةٍ ممتدّةٍ في قلوبِ الأحياءِ. حياةٌ ملؤها الإيمانُ بقدرةِ الإنسانِ على التحرّرِ مهما كانَ العدو متفوّقًا.
أمّا الأمّهاتُ والآباءُ: أبطالٌ في الظلِّ؛ إذْ وراءَ كلِّ شهيدٍ حكايةُ أمٍّ وأبٍ قدّموا أعزَّ ما يملكونَ فلذاتِ الأكبادِ دموعهم لم تكنْ دموعَ انكسارٍ؛ بل دموعُ فخرٍ لأنّهم لا يؤمنونَ بالحياةِ العابرةِ.
أمّهاتُ الشهداءِ في المقاومةِ رموزٌ فرعيّةٌ لصبرِ فلذةِ كبدِ الإمامِ عليّ “عليهِ السّلامُ” السَّيِّدةِ زينب “عليها السّلامُ”. كلماتُهنَّ الارتجاليّةُ عند وداعِ أبنائهنَّ أو استقبالِ جثامينهم الطاهرةِ حملتْ قوّةً تفوقُ كلَّ الخطابِ… .
لَقَدْ استطاع َحرْبُ اللهِ أنْ يحوّلَ كلَّ خسارةٍ فرديّةٍ إلى مكسبٍ جماعيٍّ.
وكلَّ دمٍ زُهِقَ إلى رسالةٍ عنوانها: “لا مكانَ للخضوعِ؛ ولا كرامةَ تُشترى بثمنٍ”.
هذا النمطُ من التفكيرِ أعادَ تشكيلَ الوعي الجمعيّ لأجيالٍ؛ إذْ إنَّ فكرةَ أنَّ الموتَ في سبيلِ قضيّةٍ عادلةٍ هو حياةٌ أبديّةٌ شكّلتْ قوةً لا يمكنُ هزيمتها. إنَّ الدماءَ الزكيّةَ في عقيدةِ حرْب اللهِ ليستْ أداةً للتحرّرِ حسب؛ بل هي قربة إلى اللهِ.
فالشهيدُ؛ في رؤيتنا؛ يُحيي أمّةً بأكملها. هذه النظرةُ منحتْ تضحياتهم أبعادًا تتجاوزُ الزمنَ مِمّا جعلها خالدةً في وجدانِ أتباعهِ.
في النهايةِ الدماءُ الزكيّةُ ليستْ مجرّدَ كلماتٍ تُقالُ؛ بل هي فلسفةٌ عاشها هؤلاءِ الشهداءُ بأرواحهم؛ وأصبحتْ رمزًا للكرامةِ الإنسانيّةِ. فالانتصارُ لم يتحقّقْ إلّا بتلكَ الروحِ العاليةِ التي جعلتْ كلَّ قطرةِ دمٍ توقيعًا على عهدٍ جديدٍ عنوانهُ: “الحريّةُ لا تُوهبُ؛ بل تُنتزعُ”..