الجمعة - 30 مايو 2025

الهوية الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني في العراق..!

منذ 5 أشهر
الجمعة - 30 مايو 2025

إبراهيم النداف ||

6/1/2025

في عمق التاريخ، كانت الهوية الوطنية للشعوب الحصن الذي تحتمي به من تقلبات الزمن وتحدياته. هذه الهوية ليست مجرد كلمات تُقال أو شعارات تُرفع، بل هي الروح التي تنبض في جسد الأمة. وإذا كنا اليوم نتحدث عن العراق، فإن الحديث عن الهوية الوطنية يصبح حديثاً عن جوهر وجوده، وعن ذلك التوازن الدقيق بين تاريخه العريق وثقافته المتنوعة ومستقبله الذي يواجه تحديات كبرى.

وبينما تلعب مؤسسات المجتمع المدني دوراً بارزاً في تشكيل الوعي المجتمعي، فإن تأثيرها في العراق قد أصبح ساحة لصراع بين الحفاظ على الأصالة ومجاراة العولمة.

الهوية الوطنية: درع التاريخ وسيف المستقبل
الهوية الوطنية ليست مجرد انتماء لوطن، بل هي انعكاس لثقافة وقيم وتاريخ مشترك. في العراق، تتسم الهوية الوطنية بتعدد مكوناتها الثقافية والدينية، من العرب والأكراد والتركمان إلى المسلمين والمسيحيين وغيرهم. هذا التنوع كان عبر القرون مصدر قوة، لكنه يحمل معه أيضاً تحديات معقدة في ظل محاولات التوفيق بين تعددية الهويات الثقافية وبين تشكيل رؤية وطنية موحدة.

الهوية الوطنية، في جوهرها، ليست مجرد تراكم لتقاليد موروثة، بل هي مشروع ديناميكي يتطلب جهداً جماعياً مستمراً لإعادة تعريف القيم المشتركة وصياغة الروابط الاجتماعية بما ينسجم مع التحولات الراهنة. في العراق، تعني الهوية الوطنية قدرة المجتمع على تجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية والارتقاء إلى مستوى وعي جامع يُعبّر عن روح الوطن.

إن التحدي الأساسي اليوم يتمثل في أن الهوية الوطنية العراقية أصبحت محل صراع بين الماضي والحاضر، بين القيم الثقافية المتجذرة والتحديات الجديدة التي أفرزتها العولمة. ولكي تكون هذه الهوية درعاً يحمي تاريخ العراق وسيفاً يُمهد لمستقبله، تحتاج إلى إعادة صياغة تُوازن بين حماية الخصوصية الثقافية والتفاعل الإيجابي مع القيم الإنسانية العالمية.

لا يمكن فهم الهوية الوطنية العراقية بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الذي يضعها تحت ضغط مستمر. فالتدخلات الخارجية لم تقتصر على السياسة والاقتصاد، بل امتدت إلى محاولة إعادة تشكيل النسيج الثقافي والاجتماعي. ومن هنا، تصبح حماية الهوية الوطنية مسؤولية لا تقتصر على الدولة فحسب، بل تتطلب مشاركة المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والثقافية.

إن الحديث عن الهوية الوطنية كمشروع مستقبلي لا يعني رفض الماضي أو الحاضر، بل يعني بناء هوية جامعة تستمد قوتها من تنوعها وتاريخها العريق، وفي الوقت نفسه تفتح آفاقاً جديدة تتناسب مع متطلبات العصر. في هذا السياق، يمكن للهوية الوطنية أن تكون جسراً يربط بين القيم المحلية والتحديات العالمية، بدلاً من أن تكون حاجزاً يعيق التقدم أو بوابة للذوبان الثقافي.

مؤسسات المجتمع المدني: أداة للتنمية أم وسيلة للتأثير؟
عندما نتحدث عن مؤسسات المجتمع المدني، فإننا نتحدث عن كيانات يُفترض أنها وُجدت لخدمة المجتمع وتعزيز تنميته. لكن الواقع في العراق يُظهر صورة مختلفة. فمنذ الغزو الأمريكي في 2003، شهد العراق ظهوراً متسارعاً لهذه المؤسسات، بعضها كان محلياً بأهداف وطنية، وبعضها الآخر استورد أجندات أجنبية تموّلها سفارات غربية وعربية.

إن المشكلة ليست فقط في التبعية المالية لهذه المؤسسات، بل في التأثير الثقافي الذي تمارسه. فمن خلال مشاريع “تنموية” تبدو على السطح بريئة، تسعى هذه المؤسسات إلى فرض قيم غريبة على المجتمع العراقي، قيم غالباً ما تكون بعيدة كل البعد عن الواقع الثقافي والديني للعراقيين.

تواجه القيم الإسلامية والاجتماعية في العراق تحديًا خطيرًا يتمثل في الهجمة الثقافية الغربية التي تُنفَّذ تحت غطاءات مختلفة، مثل دعم الحريات، وتعزيز حقوق الإنسان، وبرامج التنمية الثقافية. هذه الهجمة لا تقتصر على نشر أنماط سلوكية منحرفة كالترويج العلني للمثلية الجنسية، بل تحمل في طياتها أهدافًا سياسية بعيدة المدى تهدف إلى إضعاف الهوية الوطنية والدينية، وتمزيق النسيج الاجتماعي.

تسعى الجهات الممولة لهذه الأنشطة إلى تحقيق أهدافها السياسية من خلال تفكيك البنية الأخلاقية للمجتمع العراقي، وخلق حالة من الاغتراب الثقافي بين الشباب، مما يسهل السيطرة عليهم وتوجيههم بعيدًا عن القضايا الوطنية الأساسية. تُستخدم هذه المبادرات تحت عناوين البرامج الثقافية والمدنية، كوسيلة للتدخل السياسي، وفرض أجندات تتعارض مع القيم الإسلامية والعربية، بهدف خلق مجتمع فاقد لروابطه الثقافية والدينية، وأكثر انفتاحًا على النفوذ الأجنبي.

إن مواجهة هذا الخطر يتطلب تعزيز الهوية الإسلامية والوطنية من خلال جهود تعليمية وإعلامية مُمنهجة، مع فرض رقابة صارمة على الأنشطة الثقافية والمدنية المشبوهة، وفضح الأجندات الخفية التي تقف وراءها. كما يجب دعم المؤسسات الوطنية والمجتمعية التي تُعزز القيم الأخلاقية، وتشجيع الوعي الجماهيري بضرورة حماية الهوية العراقية من هذه المحاولات الممنهجة لطمسها.

التحديات الثقافية لمؤسسات المجتمع المدني
التبعية المالية والإملاءات الخارجية: تعتمد الكثير من مؤسسات المجتمع المدني في العراق على تمويل خارجي، ما يجعلها خاضعة لإملاءات الممولين. وتتركز هذه الإملاءات غالباً على تعزيز قيم العولمة، مثل فصل الدين عن الحياة العامة، والترويج لقضايا تتعارض مع البيئة المحلية.

الاغتراب الثقافي والنفسي: أدى الانبهار بالثقافة الغربية إلى تهميش القيم العراقية الأصيلة. فالعديد من المؤسسات باتت ترى في الحداثة انفصالاً عن التراث، مما أدى إلى تعزيز حالة من الاغتراب الثقافي لدى الشباب العراقي.

غياب الفهم العميق للواقع المحلي: تعمل هذه المؤسسات غالباً على استيراد حلول جاهزة للمشكلات الاجتماعية، دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع العراقي. وهذا يؤدي إلى تعميق الفجوة بين القيم المستوردة والواقع المحلي.
تشويه القيم الاجتماعية الأصيلة: تخلط هذه المؤسسات بين القيم الاجتماعية السلبية التي تحتاج إلى إصلاح، مثل العصبيات القبلية، وبين القيم الدينية والأخلاقية التي تمثل جوهر الهوية العراقية.

الهوية الوطنية بين التحدي والاستجابة

إن ضعف الهوية الوطنية في العراق ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة لسياسات وتوجهات يمكن مواجهتها. ففي مواجهة هذا التحدي، ينبغي أن تكون هناك استجابة فاعلة من قبل مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع. من هذه الاستجابات:
تعزيز التعليم الوطني: التعليم هو السلاح الأقوى لتعزيز الهوية الوطنية. يجب أن تتضمن المناهج الدراسية مواد تُرسّخ القيم الإسلامية والعربية، وتُبرز التعدد الثقافي كعنصر قوة.

إطلاق مشاريع ثقافية محلية: تحتاج الدولة إلى دعم الفنون والأدب والإعلام الذي يُبرز الهوية العراقية. فالثقافة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي أداة لبناء الوعي الجماعي.

مراقبة تمويل مؤسسات المجتمع المدني: يجب أن تكون هناك رقابة صارمة على مصادر تمويل هذه المؤسسات، لضمان استقلاليتها وحفاظها على الأجندة الوطنية.
إحياء القيم الأصيلة: لا يعني إحياء القيم الأصيلة العودة إلى الوراء، بل التمسك بجوهرها مع تطويرها لتتناسب مع متطلبات العصر. إن القيم الإسلامية والعربية ليست عائقاً أمام التقدم، بل يمكن أن تكون أساساً له.

العراق عند مفترق الطرق: هوية واحدة ومصير مشترك
إن العراق اليوم يقف في مفترق طرق بين ماضٍ مليء بالتحديات ومستقبل مليء بالفرص. وفي هذا المفترق، تبقى الهوية الوطنية هي الركيزة الأساسية لاستقرار البلاد ووحدتها. ولكن هذه الهوية ليست مجرد ترف فكري، بل ضرورة وجودية تتطلب رفض الهيمنة الثقافية الغربية التي تسعى إلى طمس القيم الإسلامية والأصالة العراقية.

إن مؤسسات المجتمع المدني، بدلاً من أن تكون وسيلة لتعزيز قيم دخيلة، عليها أن تعود إلى جذورها الوطنية والإسلامية لتكون أداة لبناء مجتمع يحترم هويته ولا يتنكر لها. فالهوية الوطنية العراقية هي امتداد للقيم الإسلامية التي تمثل الركيزة الأخلاقية والثقافية للأمة، ولا يمكن فصلها عن ذلك الإطار دون خسارة البوصلة الحضارية.

الحفاظ على الهوية الوطنية لا يعني رفض التطور، بل يعني السعي إلى تحقيق نهضة مستندة إلى القيم الإسلامية التي تُشكل جوهر ثقافة العراق. إن طريق النهوض الحقيقي لا يمر عبر الانبهار بالغرب، بل عبر تعزيز القيم المحلية التي تُمكن العراقيين من مواجهة تحديات العصر دون التخلي عن هويتهم. وإذا كان للعراق أن ينهض من جديد، فإن هذا النهوض لن يكون إلا من خلال هوية وطنية جامعة تستمد قوتها من الإسلام وتضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.