الإعلام والإثارة: قناة الشرقية نموذجًا..!
صباح زنكنة ||
هل صادفت يومًا أن جاءك أحدهم يركض ويقول لك: “صارت عركة وكومة ناس راحت بيها”، وآخر يقول: “الدمايه وصلت للركاب، والناس شردت”؟!..
وعندما تذهب إلى ميدان الحدث، تجده مجرد حادث عرضي تم تضخيمه بالتوصيف المبالغ فيه، والاسلوب المثير والجاذب، فضلا عن التناقل من دون تحقق!!.
في عالم الإعلام الحديث، بات التنافس على جذب انتباه الجمهور أولوية تتجاوز أحيانًا حدود المهنية والموضوعية واخلاقيات المهنة، وقناة الشرقية التي تُعد واحدة من أبرز القنوات العراقية، أثارت الجدل مرارًا وتكرارًا بسبب أسلوبها في تغطية بعض القضايا الاجتماعية.
فبدلًا من الاكتفاء بنقل الأحداث بموضوعية وحِرفية، تلجأ القناة إلى تضخيم بعض الجرائم الفردية وتهويلها، وتحويلها إلى “ظواهر” تهدد المجتمع بأسره، سواء كانت حالات انتحار، أو جرائم اغتصاب، أو سرقات، أو قتل عمد، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية واسعة لا تُحمد عقباها!!.
يحدث في أي مجتمع أن تظهر جرائم أو حوادث مؤسفة، لكن تناولها إعلاميًا بأسلوب الإثارة والتهويل قد يحوّلها إلى أزمة وطنية واجتماعية، فحين تسلط الشرقية الضوء على حادثة فردية بطريقة درامية، مكرّرة المشاهد والتحليلات العاطفية والانفعالية، فإنها تسهم في ترسيخ مشاعر الخوف والقلق بين المواطنين، وكأن هذه الجرائم أصبحت القاعدة وليست الاستثناء، مما يؤدي إلى تحويل الحالات الفردية إلى أزمات اجتماعية.
هذا النهج لا يقتصر أثره على المتلقين فحسب، بل يمتد ليؤثر في الواقع الاجتماعي نفسه، فالترويج المكثف لجرائم الانتحار مثلًا ، قد يؤدي إلى “عدوى الانتحار”.. حيث تشير دراسات علم النفس إلى أن التغطية الإعلامية المبالغ بها لحالات الانتحار قد تدفع أشخاصًا يعانون من اضطرابات نفسية إلى تقليدها فورًا، بحثًا عن الخلاص السريع،كذلك فإن تصوير المجتمع العراقي على أنه غارق في العنف والانحراف الأخلاقي يعزز الإحباط، ويقوّض الثقة بين الأفراد ومؤسسات الدولة، ويترك انعكاسات سلبية على المجتمع.
ليس الإعلام مجرد ناقل للخبر، بل هو شريك في تشكيل الوعي والرأي العام، فحين تختار قناة مثل الشرقية التركيز على الأحداث السلبية بأسلوب يفتقر إلى التوازن والى مراعاة نفسية المتلقي، فإنها تشارك في تعميق مشاعر الإحباط والخذلان لدى الجمهور، فبدلًا من تسليط الضوء على الإنجازات المهمة والقصص الملهمة، تقدم القناة صورة قاتمة للمجتمع، وكأن العراق ليس سوى ساحة للفوضى والجريمة!!.
لذا، يتعين على المؤسسات الإعلامية العراقية، بما فيها الشرقية، أن تعيد النظر في سياساتها التحريرية، وأن توازن بين حرية الصحافة والمسؤولية الاجتماعية.
فالتركيز على الإثارة والعنف قد يجذب المشاهدين لحظيًا وبشكل مؤقت ، لكنه يضر بالنسيج المجتمعي على المدى البعيد. فالإعلام سلاح ذو حدين، واستخدامه بحكمة هو ما يميز القنوات الرصينة عن تلك التي تبحث عن الإثارة بأي ثمن كان.