الخميس - 13 فيراير 2025
منذ أسبوع واحد
الخميس - 13 فيراير 2025

سمير السعد ||

في عالم يتغير بوتيرة سريعة، نشهد انقلابًا عجيبًا في القيم والمبادئ التي كانت يومًا ما حجر الأساس لأي مجتمع متماسك.

أصبح الكذب ذكاءً اجتماعيًا، والطيبة مرادفًا للغباء، والعدل ضعفًا، والتواضع ذلة، حتى بات الإنسان الصادق والمخلص يجد نفسه غريبًا في زمن لا يعترف إلا بالمصالح.

كان الكذب مذمومًا في كل الأديان والثقافات، وكان الرجل الصادق يُحترم، أما اليوم فأصبح البعض يعتبر الكذب فنًا والتلاعب مهارة ضرورية للنجاح.

بل إن المجتمعات باتت تكافئ المخادع أكثر مما تكافئ الصادق، وتحتفي بمن يجيد المراوغة بدلًا من أصحاب النيات الحسنة.

الطيبة، فقد أصبحت تهمة، وغالبًا ما يُوصف الشخص الطيب بالساذج، وكأن القسوة أصبحت دليلًا على القوة والذكاء. لقد حلّت المصلحة مكان الصداقة، والخيانة محل الوفاء، ولم يعد هناك وزنٌ للقيم النبيلة التي كانت تربط الناس ببعضهم البعض.

في الماضي، كان التواضع فضيلة، وكان الإنسان المتواضع ينال الاحترام والتقدير، لكن اليوم، أصبح البعض ينظر إلى التواضع على أنه ضعف، والتكبر على أنه وجاهة، حتى بات النجاح في بعض المجتمعات يقترن بالتفاخر والتباهي بدلًا من العمل الجاد والإنجاز الحقيقي.

تحولت الوقاحة إلى شجاعة، فصار من يرفع صوته ويهين الآخرين يوصف بأنه “قوي الشخصية”، بينما يُنظر إلى الإنسان المؤدب على أنه ضعيف أو غير قادر على المواجهة.

هذا التغير في القيم لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج بيئات اجتماعية وإعلامية تروّج لهذه المفاهيم المقلوبة.

فوسائل التواصل الاجتماعي، مثلًا، أصبحت ساحة للتفاخر والاستعراض، وأصبحت الشهرة تُمنح لمن يثير الجدل وليس لمن يقدم فكرًا نافعًا أو عملًا حقيقيًا.

أن الحياة المادية جعلت الناس أكثر حرصًا على تحقيق المكاسب بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ. فصار النجاح يقاس بعدد الأرقام في الحسابات البنكية، وليس بمدى النزاهة أو الأخلاق.

رغم هذا الواقع، لا يزال هناك أمل. فالمجتمعات التي تنهار قيمها تنهار معها، ومن هنا تأتي مسؤوليتنا جميعًا في إعادة ترسيخ المبادئ الصحيحة.

يجب أن يكون للإعلام دور في تصحيح المفاهيم بدلًا من تعزيز السلوكيات السلبية، كما يجب أن نربي أبناءنا على القيم الصحيحة، حتى لو بدا المجتمع يسير في الاتجاه المعاكس.

نحتاج إلى قدوات تعيد لنا الثقة بأن النجاح لا يتعارض مع الأخلاق، وأن العدل والتواضع والوفاء لا تزال قيمًا تستحق الاحترام. و علينا أن نكون أكثر وعيًا في تعاملاتنا، فلا نُخدع بالمظاهر، ولا نقيّم الناس بناءً على ما يملكون، بل بناءً على ما هم عليه من قيم وإنسانية.

أسفي على زمن اختلت فيه الموازين، لكن الأمل لا يزال قائمًا. فمهما تبدّلت المفاهيم، يبقى الحق حقًا، ويبقى الخير هو الطريق الأسمى. وما دمنا ندرك الخلل، فإن التغيير ممكن، ولو بدأ بخطوات صغيرة في حياتنا اليومية.

قد يكون من الصعب مقاومة التيار الجارف للزيف والمصالح الضيقة، لكن في داخل كل إنسان هناك بصيرة تميّز بين الصواب والخطأ، وبين القيم الحقيقية والمزيفة.

يكفي أن يتمسك الإنسان بمبادئه، ولو كان ذلك في وجه مجتمع يراه مختلفًا أو ساذجًا، لأن التاريخ أثبت أن من يصنع الفرق ليس من يساير الخطأ، بل من يجرؤ على التمسك بالصواب.

نبدأ بأنفسنا، بالكلمة الطيبة التي تعيد الاحترام، بالموقف العادل الذي ينصف الضعيف، بالصداقة الصادقة التي لا تنتظر مقابلًا، وبالوفاء الذي يبقى رغم تبدل الظروف.

عندها فقط، يمكننا أن نأمل بمستقبل تعود فيه القيم إلى مكانها الصحيح، وزمن لا يُنظر فيه إلى الطيب على أنه ضعيف، ولا إلى الكاذب على أنه ذكي.

الزمن لا يتغير من تلقاء نفسه، بل يتغير بنا، وبما نزرعه اليوم في نفوس أبنائنا ومجتمعاتنا، ليكون الغد أكثر عدلًا وإنسانية.