فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ..!
الشيخ حسن عطوان ||
🖊️ يقول عزَّ من قائل :
( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ *
وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) [ هود : 106 – 108 ]
🖊️ وهنا سؤالان :
– الأول : من الواضح أنَّ السموات والأرض تزول ، وهي الى فناء ، فهل معنى ذلك أنَّ وجود المؤمنين في الجنة محدد بأمد ينتهي عند ذلك الفناء ؟؟!
يقول تعالى :
( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) [ الأنبياء : 104 ] .
ويقول جلَّ وعلا :
( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا * فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) [ الواقعة : 4 – 6 ] .
– الثاني : ما المراد بقوله تعالى :
( إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ ) ؟!
من المعقول أنَّ بقاء المذنبين في النار معلَّق على المشيئة الإلهية ، فقد يخرج بعضهم منها بعد أمدّ برحمته سبحانه ، وهو أرحم الراحمين .
لكن كيف يُتَصوّر ذلك في المؤمنين ، هل يعني ذلك أنَّ الله سبحانه قد يُخرجهم من جنته ؟!
🖊️ الجواب :
– أمّا جواب السؤال الأول :
فإنَّ الله سبحانه يقول أيضا أنَّ للآخرة أرضاً وسموات غير الأرض والسموات في الدنيا .
يقول عزَّ وجلَّ :
( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّـهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) [ إبراهيم : 48 ] .
فالمراد بالسموات والأرض في الآيتين الكريمتين المتقدمتين في سورة هود : السموات والأرض اللتان سيكونان في عالم الآخرة .
– وأمّا جواب السؤال الثاني :
فالمراد الإشارة الى أنَّ لا شيء في الكون يتحقق بدون مشيئته سبحانه ، لكي لا يتوَهم أحد أنَّه بعد إدخال المؤمنين الى الجنة برحمة من الله سبحانه ولطفه ، فسيكون بقاؤهم فيها قهرياً ، وسيخرج الأمر عن المشيئة والقدرة والإرادة الإلهية المطلقة ، فقوله تعالى : ( إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ ) لرد هذا التوهم .
فالمؤمنون خالدون في الجنة نعم ، لكن بمشيئته ولطفه جلَّ وعلا .
وممّا يشهد لذلك أنَّ الآية الكريمة قالت بعد ذلك : ( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، أي أنّه عطاء دائم غير مقطوع .
🖊️ ثم هنا توجد نكتة لطيفة :
أنَّ الآية الأولى عبّرت عن المذنبين :
( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ) ، فجاء الفعل الماضي ( شَقُوا ) بالمبني للمعلوم ، وهذا يعني أنَّ المصير الذي هم فيه من شقاء ومحنة يُنسَب لهم ، وبسبب أفعالهم ، فهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الفيض والتوفيق والرضا والرحمة الإلهية .
بينما الآية الثانية التي تحدثت عن مصير المؤمنين وأنَّ مآلهم الى السعادة في الجنة ، جاء الفعل الماضي فيها ( سُعِدُوا ) بصيغة المبني للمجهول ، فسعادتهم منسوبة لفاعل آخر ، وهو هنا الله سبحانه ، وليست منهم ، أي ليست باستحقاقهم الذاتي ، بل هي برحمته ولطفه جلَّ إثمه .
بل حتى أعمال الخير التي قاموا بها في الدنيا وإلتزامهم بما أوجب الله عليهم ، وإبتعادهم عمّا حرّمه سبحانه ، ممّا جعلهم في معرض رضاه ورحمته ، كل ذلك إنّما كان بتوفيق وتسديد منه سبحانه .
يقول جلَّ وعلا :
( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّـهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ) [ النور : 21 ] .
وعبارة ( مَنْ يَشاءُ ) لا تعني أنَّ المشيئة الإلهية اعتباطية ومن دون نحوٍ من الاستحقاق والأرضية ، حاشاه من ذلك ، فالله سبحانه شاءت إرادته أنْ يكون الإنسان مختاراً ، ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) [ الإنسان : 3 ] ،
نعم إنَّ الله جلَّ إسمه يهدي عباده الذين يكدحون اليه ، و يجاهدون أنفسهم ومحيطهم لنيل رضاه سبحانه ، ويأخذ بأيديهم ويوفقهم ويسددهم في مسيرة الكدح تلك .
وأمّا الذين عصوا ، وغرتهم الدنيا بغرورها ، وسقطوا في وحل المعاصي ، وظلموا الناس وأنفسهم ، وبارزوا الله سبحانه بما أعطاهم أيّاه هو من قدرات ، وفي ساحة ملكه ، فليس لهم على الله جلَّ وعلا شيء .
والله العالم .
[ حسن عطوان ]
https://t.me/+dfbSHH50x3c1MjE6