الجزاء والذكر: مصير الإيمان ومقام التسبيح في ميزان الآخرة..!
د. عامر الطائي ||
في هذه الآيات المباركات من سورة الروم، تتجلّى أمام القارئ حقيقة مصيرية لا تقبل التبديل: هناك طريقان لا ثالث لهما، أحدهما يُفضي إلى النعيم، والآخر إلى العذاب. وبين الطريقين تتحدّد قيمة الإنسان وفق إيمانه وعمله، لا حسب نسبه أو لسانه أو موقعه.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾
هؤلاء هم الذين آمنوا لا ادّعاءً، بل إيمانًا حملوه فى القلب، وتجلّى فى العمل. فكان لهم جزاءً روضة، موطن الخُضرة والطمأنينة والنعيم، لكن اللافت فى التعبير أن الآية لم تكتفِ بوصف النعيم، بل قالت: “يُحْبَرُونَ”، أى يفرحون فرحًا يُغمر به القلب، فرحًا هادئًا لا صخب فيه، وإنما هو رضا خالص، وسعادة لا يعتريها خوف ولا حزن.
أما الفريق الآخر، فذكرتهم الآية التالية بوضوح:
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾
هؤلاء لم يُعرضوا عن الحق جهلًا، بل كفرًا وتكذيبًا، وجحدًا بلقاء الآخرة الذى يمثل جوهر الإيمان بالغيب. فكان عذابهم ليس فقط عقوبة، بل “إحضارًا” إلى العذاب، كما يُحضر المجرم إلى المحكمة، لا يملك خيارًا ولا مهربًا.
ثم تنتقل الآيات إلى مشهد نورانى، يُرشد إلى وسيلة الثبات فى الدنيا، ألا وهى الذكر:
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾
التسبيح، لا كعبادة موسمية، بل كمنهج حياة، يُرافق الإنسان صباحًا ومساءً، ويُملأ به الزمن، حتى يكون اليوم كلّه تسبيحًا، والصمت تسبيحًا، والعمل تسبيحًا، والنية تسبيحًا.
وتتسع دائرة الذكر لتشمل كل الوجود:
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
كل الكائنات تُسبّح بحمد ربها، لا انفكاك لها عن الذكر، لا غفلة ولا فتور، وإنما طاعة فطرية. وكأن الآية تدعو الإنسان إلى أن يلتحق بركب الوجود، ألا يتخلّف عن تسبيح الكون، بل يكون جزءًا من هذا النشيد الكوني المهيب.
هذه الآيات تصنع توازنًا عجيبًا بين الجزاء والمبدأ، بين الآخرة والحياة الدنيا.
فهى تُحدّثنا عن المصير، لكنها لا تتركنا فى رهبة المصير دون دليل، بل تفتح لنا باب التسبيح والذكر، باب الصلة بالخالق، الذى إن اعتاد عليه القلب، ازدهرت به الحياة، وأثمرت النجاة. فاختر موقعك: روضة المحبورين أم عذاب المحضرين، وسلاحك هو الذكر، والزاد هو العمل الصالح.