الانتخابات العراقية بين دكتاتورية الماضي وانحراف الديمقراطية المعاصرة..!
د. محسن حنون العكيلي ||
لقد عاش الشعب العراقي لعقودٍ طويلة تحت قبضة حكم دكتاتوري قمعي مثّله نظام صدام حسين، ذلك النظام الذي اختزل الدولة بشخصه، وتعامل مع العراق وكأنه مزرعة خاصة يعبث بها كما يشاء.
كان يحكم العراق بقبضة من حديد ونار، يمارس القمع والقتل والتهجير، وينشئ المقابر الجماعية لتكون شاهداً على بطشه وظلمه. وحتى حين أراد تلميع صورته داخليًا وخارجيًا، لجأ إلى انتخابات واستفتاءات صورية، كانت نتائجها دائمًا تبلغ نسبًا خيالية بلغت 99.9% لصالحه، وكأن العراقيين شعب لا يعرف سوى التهليل للطغاة.
لكن بعد عام 2003، ومع سقوط النظام البعثي، تنفّس العراقيون الصعداء وشعروا لأول مرة بأن بابًا من أبواب الحرية قد فُتح، وأن للديمقراطية معنى يُترجم من خلال صناديق الاقتراع، ومن خلال تمثيل حقيقي للإرادة الشعبية.
نعم، كانت لحظة الانتخابات لحظة تاريخية ومفصلية في حياة العراقيين، فهي المعيار الحقيقي لأي نظام ديمقراطي، والوسيلة الحضارية لاختيار من يمثل الناس ويصوغ حاضرهم ومستقبلهم.
غير أن هذه الفرحة سرعان ما تحولت إلى خيبة، إذ بدأت ملامح الانحراف تظهر شيئًا فشيئًا في العملية الانتخابية، وبدلاً من أن تكون الانتخابات وسيلة لتكريس الديمقراطية، أضحت سوقًا لتجارة الأصوات والمقاعد، حيث تحولت العملية الانتخابية إلى معركة أموال ونفوذ أكثر منها منافسة برامج ورؤى وطنية.
فمن يمتلك المال السياسي يستطيع أن يشتري طريقه نحو البرلمان، بل إن بعض الكتل السياسية لا تكتفي بتمويل مرشحيها فحسب، بل تذهب إلى أبعد من ذلك، فترصد المرشحين الفائزين من قوائم أخرى وتعرض عليهم مبالغ طائلة للانضمام إليها، وكأن المقعد النيابي سلعة تُعرض في المزاد العلني لمن يدفع أكثر، وليس تمثيلًا لشعب وناخبين وضعوا ثقتهم في من انتخبوه.
إن هذه الممارسات تُفقد العملية الانتخابية جوهرها، وتحوّل الديمقراطية إلى ديكور شكلي خالٍ من المضامين الحقيقية، وتُكرس نفوذ المال الفاسد على حساب الكفاءة والنزاهة. والأدهى من ذلك أن بعض الكتل لم تحصل أصلًا على مقاعد عبر صناديق الاقتراع، لكنها تنتهي بالحصول على تمثيل واسع داخل البرلمان من خلال شراء الولاءات وتغيير الانتماءات.
إن استمرار هذه الظواهر الخطيرة يهدد مستقبل الديمقراطية في العراق، ويقوّض الثقة العامة بالعملية السياسية برمّتها، ويُرسّخ الشعور باليأس لدى المواطن الذي بدأ يرى أن صوته لا قيمة له، وأن من يصل إلى البرلمان لا يعكس بالضرورة إرادته، بل إرادة المال والنفوذ والصفقات المشبوهة.
ومن هنا، فإن الواجب الوطني والأخلاقي يفرض على الجهات المعنية – وفي مقدمتها مجلس النواب والحكومة ومفوضية الانتخابات – أن تتصدى لهذه الانحرافات، عبر حزمة من الإجراءات والإصلاحات العاجلة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. تشريع قوانين صارمة تمنع استخدام المال السياسي، وتفرض عقوبات رادعة على من يثبت تورطه في شراء الأصوات أو المرشحين.
2. تحديد سقف للإنفاق الانتخابي لكل مرشح ولكل قائمة، وإلزامهم بتقديم كشف مالي مفصل قبل وأثناء وبعد الانتخابات.
3. تمكين مفوضية الانتخابات من أدوات رقابية فاعلة، وزيادة استقلاليتها المالية والإدارية، لضمان قدرتها على ضبط العملية ومنع التلاعب.
4. إنشاء هيئات قضائية خاصة بمحاكمة الجرائم الانتخابية، لضمان سرعة البت في المخالفات، وعدم إفلات الجناة من العقاب.
5. الاستفادة من تجارب الدول المجاورة، مثل الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تمارس انتخابات دورية منذ سنوات طويلة دون أن نشهد مثل هذه الفوضى الدعائية أو هذا السيل الجارف من الأموال.
6. تنظيم الدعاية الانتخابية بشكل حضاري يحافظ على جمالية المدن، ويمنع تشويه الشوارع بالصور واللافتات الفوضوية.
7. تعزيز وعي الناخب العراقي بخطورة بيع صوته أو التهاون في اختيار ممثليه، لأن تكرار الأخطاء الانتخابية يعيد إنتاج الفشل السياسي.
إن الإصلاح الانتخابي ضرورة لا تقبل التأجيل، وهو جزء أساسي من إصلاح العملية السياسية بشكل عام. فبدون انتخابات نزيهة وشفافة، لن يكون هناك تمثيل حقيقي، وبدون تمثيل حقيقي، لن تكون هناك ديمقراطية حقيقية.
لقد آن الأوان أن نعيد الثقة بالانتخابات، ونمنح المواطن العراقي الأمل بأن صوته قادر على التغيير، لا أن يباع ويُشترى في سوق الفساد السياسي.