حرية التعبير بين الانضباط العسكري والواقع السياسي
كاظم الطائي/Nor
يُعد الحق في التعبير السياسي من أبرز مظاهر الحريات العامة في الأنظمة الديمقراطية، إلا أن هذا الحق يخضع لقيود وضوابط حينما يتعلق بالعسكريين، نظرًا لطبيعة عملهم وحساسية مواقعهم داخل مؤسسات الدولة. وتختلف حدود هذا الحق من دولة إلى أخرى، باختلاف الأنظمة السياسية والدساتير والقوانين العسكرية المعمول بها. وفي السياق العراقي، تبرز إشكالية التصريح السياسي للعسكريين كقضية تتداخل فيها الاعتبارات القانونية مع الواقع السياسي والاجتماعي القائم.
أولًا: الإطار القانوني والسياسي لتصريحات العسكريين
تنص معظم القوانين العسكرية حول العالم على التزام العسكريين بالحياد السياسي، خاصة في ما يتعلق بالقضايا الداخلية والدولية التي قد تؤثر على استقرار الدولة أو صورة المؤسسة العسكرية. ويهدف هذا الحياد إلى حماية المؤسسة من التسييس وضمان ولائها للدولة لا للأفراد أو التيارات.
في العراق، وبموجب القوانين والأنظمة المعمول بها، يجب أن يكون العسكريين الالتزام بالحياد التام، والامتناع عن التصريحات السياسية العلنية، لا سيما تلك التي قد تُفسر على أنها انحياز لطرف أو تشهير بطرف دولي أو محلي.
ثانيًا: إشكالية الواقع الديمقراطي في العراق
رغم ما يُسجل من تقدم نسبي في المسار الديمقراطي العراقي، فإن الممارسة الديمقراطية لا تزال تعاني من اختلالات واضحة.
فالديمقراطية، بوصفها منظومة سلوك ومؤسسات، لم تترسخ بعد في البنية الاجتماعية والسياسية العراقية، نتيجة تراكمات تاريخية، وضعف ثقافة المؤسسات، وهيمنة المصالح الفئوية على المصلحة العامة.
هذا الواقع ينعكس على التعامل مع قضايا مثل حرية التعبير للعسكريين، والتي غالبًا ما يتم تناولها من زاوية سياسية وفقاللتعليمات الحكومية الرسمية، بدلاً من مناقشتها في إطار مؤسساتي قانوني.
ثالثًا: حالة اللواء يحيى رسول كنموذج
في هذا السياق، تبرز حالة اللواء يحيى رسول، الذي تم نقله من موقعه بعد تصريح إعلامي وصف فيه أحد قادة التنظيمات الإرهابية بأنه “مجرم وإرهابي”. وهو تصريح تعاملت معه الدولة وفقا لقوانينها النافذة، مع أنه لا يخرج عن الإطار الأخلاقي والوطني الذي يتبناه كثير من العراقيين المتضررين من الإرهاب.
لكن بدلًا من دعم هذا الموقف، تم التعامل معه كخرق للمسؤوليات العسكرية، ما أدى إلى تنحيته بمرسوم رسمي، في قرار فيه من التساؤلات حول المعايير التي يتم اعتمادها في محاسبة المسؤولين العسكريين، وحول طبيعة العلاقة بين السياسة والمؤسسة العسكرية في العراق.
رابعًا: أزمة المعايير وتسييس المؤسسات
إن المشكلة لا تكمن فقط في التصريح بحد ذاته، بل في عدم وضوح رسمي للمعايير الواضحة والمتوازنة التي تحكم مثل هذه القضايا.
فالإعلام، الذي يُفترض أن يكون سلطة رقابية ومصدرًا للوعي، يعاني من انقسام حاد وتوظيف سياسي، الأمر الذي يسهم في تضخيم التصريحات أو تشويهها.
أما المؤسسات العسكرية، فتُظهر في بعض الأحيان ضعفًا في بناء كوادرها وتثقيفها على المبادئ المهنية والحيادية، ما يجعلها عرضة للتأثر بالضغوط السياسية، ويفتح الباب أمام قرارات قد تُفهم كإرضاء لأطراف خارجية أو داخلية، على حساب الكفاءة والمواقف الوطنية.
خامسًا: دعوة للنقاش المجتمعي والمؤسساتي
إن من واجب المثقفين والكتاب والسياسيين المنتمين إلى مشروع وطني حقيقي أن يسلطوا الضوء على مثل هذه القضايا، لا من باب الدفاع عن أفراد، بل من باب نقد البنية المؤسسية وآليات اتخاذ القرار. ويجب أن تتحول مثل هذه الحالات إلى موضوع نقاش عام يُسهم في بناء وعي سياسي ومؤسساتي رشيد، ويعزز احترام الحقوق والحريات ضمن الأطر القانونية.
كما ينبغي تعميم هذه القضايا في المحافل الدولية بلُغة قانونية ومهنية، لتكون جزءًا من التقييم الدولي لمؤشرات الحكم الرشيد وحقوق الإنسان في العراق.
خلاصة القول
قضية اللواء يحيى رسول ليست مجرد حادثة معزولة، بل تمثل مرآة للواقع السياسي والإداري الذي يعيشه العراق.
وهي دعوة صريحة لإفهام وتوضيح مفهوم الحياد السياسي للمؤسسة العسكرية، دون المساس بحرية التعبير التي تُعد من صميم القيم الديمقراطية.
فالمطلوب تنظيم خطابهم بما يخدم الدولة ولا يُقيد المواطن داخل الزي العسكري من ممارسة إنسانيته ورأيه.