عالم يتشكل..!
الشيخ جمعة العطواني ||
الاثين 21/ 4/ 205
(طوفان الاقصى) نقطة الشروع في تشكل عالمنا الشرق اوسطي بشكل افقي وعمودي، فمعركة الطوفان ليست معركة جغرافية، او نفوذ بين المحاور المتصارعة فحسب، بقدر ما انها معركة وجود بين المدارس الفكرية والسياسية، ولهذا فان نتائج هذا الطوفان العسكرية ستلقي بظلالها على مناهج الفكر السياسي بين تلك المدارس.
اعادة تشكل العالم الشرق اوسطي لن يكون بين(دول) بمعناها السياسي، بل انه اعادة تشكل لشعوب ونخب في داخل هذه الدول، بمعنى اخر فان الصراع الفكري الذي افرزته معركة الطوفان ستفرز داخل شعب كل دولة انتماءاته بين المدراس المتصارعة،
وهذا ما نتابعه من طبيعة الحوارات الساخنة و(العدائية) احيانا بين نخب وشعوب الدولة الواحدة، وهذا الصراع سينتهي بالنتيجة الى ما تؤول اليه الصراعات العسكرية الجارية.
بعض المغتربين(الاسلاميين) الذين عاشوا في أوروبا اغترابا(جغرافيا) في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، عاشوا ايضا اغترابا(فكريا)، اذ انهم واجهوا ازدواجية التعايش بين ثوابت وقيم اسلامية يحملونها، وبين قيم وثوابت مجتمعات ودول تتعارض مع ثوابتهم، والاغتراب الثاني جعلهم يكيفون الثوابت الاسلامية مع ما هو متقاطع معها، في محاولة للهروب من تلك الازدواجية، فانحازوا الى الفكر الغربي، وطوعوا قيم الاسلام بما يتكيف مع الثقافات الغربية، وتوسلوا بمختلف المفاهيم(التنويرية) من اجل الخلاص من تلك العقد التي يعيشونها في دواخلهم.
بعد سقوط نظام البعث في العراق وعودتهم الى العراق (مُعَوّلين) على الاحتلال الامريكي لجغرافية العراق، وكذلك على حمولات الاحتلال الفكري الذي غزاهم في فترة الاغتراب (الجغرافي)، فكتبوا وتحدثوا بوهج الحداثة وضرورة مواكبة المتغيرات في العالم، وعدم الجمود على الثوابت لانها متغيرة بتغير الزمان والمكان، كما تحدثوا بثوب(الوطنية) العابر للاديان والانتماءات الضيقة، كل ذلك في محاولة منهم لتكييف اغترابهم الفكري مع الواقع الاجتماعي والقيمي والسياسي الذي صُدِموا به في العراق.
في معركة طوفان الاقصى كان الانحياز(السياسي) تابعا للانحياز الفكري لدى هذه النخبة من المغتربين، فتجدهم(يثبطون)احيانا، و(يجبنون) احيانا اخرى، و(يخونون) احيانا ثالثة كل من يرفع شعارات تتسق مع طبيعة المعركة بين المدرستين الاسلامية واللا اسلامية .
فكل من يحمل سلاحا ضد اسرائيل ليس وطنيا، لانه يريد توريط الدولة بمعارك لا طائل منها، وكل من يحمل سلاح المقاومة ضد امريكا بوصفها دولة استكبارية وفق الثقافة الاسلامية يعد في نظرهم مليشاويا، لانه يريد زوال الدولة من جذورها .
فالوطنية في نظرهم ان تقبل بكل ما يملى عليك من القوي(فكرا، او قوة، او هيمنة)، لان الوطنية في نظر هؤلاء انك( تعيش لتاكل).
معيار الربح والخسارة لدى هذه النخب تحسب بكم الخسائر البشرية والمادية، والربح بمعيار حجم الدمار والابادة التي يحققها العدو ليس اكثر.
الوطنية في نظر هؤلاء تحسب بحسابات منافقة، ففي الوقت الذي لا يسمح لقوة السلاح ان تدافع عن المشترك معنا في الدين والقومية والجوار، فضلان عن الانسانية، يسمح هؤلاء للاخر ان يعبر الحدود ويجوب البحار باساطيله لاحتلال دول، وانتهاك كرامة شعوب لان وطنيتهم تقتضي ذلك.
في المدرسة الاخرى فان الثوابت والمناهج والاخلاقيات مختلفة عن المدرسة الاولى، فمقدار الربح والخسارة بمقدار اداء التكليف، وبحساب النتائج في نهاية المعركة(الاعمال بخواتيمها)، معيار الوطنية لدى اصحاب المدرسة الاسلامية تقاس بقول امير المؤمنين عليه السلام(ولقد كنا مع رسول الله نقتل اباءنا وابناءنا واخواننا واعمامنا، ما يزيدنا ذلك الا ايمانا وتسليما، ومضيا على اللقم، وصبرا على مضض الالم، وجدا في جهاد العدو).
بعد عام وثمانية اشهر تقريبا على طوفان الاقصى لازالت غزة بشعبها الجريح المكلوم وبمقاومتها الصامدة بارضها، ولا زالت صواريخ انصار الله تدك حاملات الطائرات الحربية والسفن الامريكية في كل يوم، والعراق لازال بمرجعيته وقواه الاسلامية، فضلا عن فصائله المسلحة منحازا الى فلسطين ومحور المقاومة، ولا زالت ايران تمثل ذلك العمق الاكبر لمحور المقاومة.
اليوم بدات تتجلى نهاية المعركة في ابعادها السياسية والعسكرية والفكرية ايضا، فامريكا تواقة لعقد اتفاق مع ايران ضمن الشروط الايرانية، اذ ان عدم امتلاكها للسلاح النووي ليس شرطا امريكيا بقدر ما هو قناعة ايرانية، في مقابل اشتراطات ايران التي فرضتها على امريكا تمثل تنازلات غير مسبوقة في تاريخ امريكا، وبخاصة في ادارة ترامب التي تعد من اكثر الادارات الامريكية استهتار واستخفافا بشعوب وانظمة المنطقة.
انفتاح السعودية على ايران، وتغريدات محمد بن سلمان باللغة الفارسية، في وقت كان يرفض الحوار مع دولة تؤمن بالامام المهدي (عج)، ودعوته الى رفض اية تهديدات على ايران من اسرائيل او امريكا، كلها يجب ان توضع في حسابات اعادة التشكل في المنطقة والى اي اتجاه تسير.
من جانب اخر فان المعركة الثقافية الفكرية بين نخب المنطقة هي الاخرى بدات تتجلى في هذا الطوفان، فبعد انتهاء المعركة سنجد ان هناك تشكلا جديدا بحمولات ثقافية داخل الدولة الواحدة، ونخشى ان تنتهي المعركة العسكرية في غزة ويبقى اوارها الثقافي والفكري داخل المجتمع الواحد لعقود طويلة، لان المعركة الثقافية اخطر من المعركة العسكرية والسياسية، لانها من اكثر المعارك لا تؤمن بحدود، وهذا ما نشاهده في العراق على وجه الخصوص.
نعم عالم يتشكل على اساس ثابت جديد كان راسخا لدينا، لكن الاخر المختلف معنا و(المغترب) فكريا لا يقبل به وهو(ان الدول العلمانية بقيادة امريكا، انظمة مجرمة لا تحترم انسانية الانسان ولا كرامة الشعوب ولا قيم المجتمعات ) هذا الثابت الفكري الجديد يعد احد اهم منجزات الطوفان الثقافي على المستوى المنظور والبعيد.