الجنوبيون منذ النكبة بين النار والدمار..!
ناجي علي أمّهز ||
في بلدٍ يُدعى لبنان، هناك أرض اسمها الجنوب…
لا تشبه سائر الأراضي، بل تشبه الجرح، الذي كلما التأم، أعادوه للنزيف بسكينٍ أعمى.
عندما زارها يسوع كان يعلم انها ستصلب مثله.
وعندما سكنه ابو ذر الغفاري كان يعلم ان الجنوب سيظلم مثل الامام علي الذي لم يترك له الحق صاحبا.
ذاك الجنوبي الذي يُعرف اليوم بأنه ابن البندقية والمقاومة، كان يُعرف بالأمس من يديه المشققتين بتبغ الأرض، وبقدميه اللتين شقتا الشوك بحثًا عن رغيف وكرامة.
الجنوبي دفع الضرائب للدولة والضريبة لزعماء الاقطاع الذين لم يزرعوا شجرة، ولم يسقوا نبتة، لكنهم قبضوا ثمن الحصاد.
أما الدولة، فكانت تساومه على عرقه، وكأنها تمنّ عليه ببقايا كرامته.
ابن الجنوب كان صوته مخنوقا وليسمعه النظام اللبناني كان عليه ان يتظاهر في بيروت مطالبًا بشراء محصوله، لم يكن يستعطي… بل كان يصرخ من عمق “المحرومية”.
عام 1948، وقعت نكبة فلسطين، لكن ثقلها ارتطم بالجنوب اللبناني.
وفي 1969، كتب التاريخ خطيئته باسم “اتفاق القاهرة”… لا اتفاق، بل صفقة على حساب أبناء الجنوب الذين لم يُستأذنوا، لأنهم ببساطة: لا صوت لهم. كانوا “المحرومين”.
ثم جاء الفلسطيني ببندقيته، وأطلق النار من أرض الجنوب.
فردّ الإسرائيلي، لا على البندقية، بل على الأرض وأهلها.
أُحرقت القرى، هُدّمت البيوت، سالت الدماء…
ومع كل فعل وفعلٍ مضاد، كان من يدفع الثمن؟
الجنوبي وحده.
رفض الجنوبي عبثية السلاح الفلسطيني، فاتهموه بالعمالة لإسرائيل. واعتقل وقتل وهجر
رفض احتلال وظلم إسرائيل، فاتهموه بالعمالة للفلسطيني. وايضا اعتقل وقتل وهجر
رفض الاثنين معا، وقرّر الجنوبي أن يقاوم اسرائيل لتحرير ارضه ونيابة عن الفلسطينيين، ليجنب الجنوب ان يكون ورقة تفاوض ومساومة بين العواصم الكبرى، فقيل عنه عميل ايراني.
الجنوبي الذي قدم كل شيء ليبقى في ارضه وتبقى ارضه جزءا من لبنان.
، تآمر عليه الجميع:
إسرائيل، بعض العرب، سوريا الجديدة، وحتى أمريكا.
تخيّل أن تُصبح خائنًا في كل الاتجاهات… فقط لأنك أردت أن تبقى حيًّا.
هل عرفتم الان لماذا الجنوبي يشعر بما يشعر فيه اهل غزة لانه يعيش معاناتهم مظلوميتهم.
قدم الجنوبيون دموعهم لحمهم دمهم بيوتهم حقولهم احلامهم للبنان وفلسطين، ماذا قدم هذا العالم للجنوب.
اليوم، لا يزال الجنوبي يرتقي شهيدًا بآلة القتل الإسرائيلية، فيما بقية لبنان تتابع المشهد كأنها تشاهد كوكبًا آخر يحترق.
لا حزن، لا تضامن، لا حتى فضول إنساني.
فقط صمت… اصبح الموت مجرد خبر .
هل يعقل أن يصبح استشهاد طفل جنوبي، مجرد ورقة تطوى على عجل؟
أين ذهب القلب؟ اين منطق العقل؟.
كيف تحوّلنا إلى مجتمع لا يهتز، حتى حين تُقتل أطفال لبنان؟
هل أصبحنا مجرد حقل تجارب في مختبر الطائفية؟
بلا إحساس، بلا تفاعل… نعيش تحت ضوء بارد، كأننا مخلوقات اصطناعية بلا ذاكرة.
ما بكم يا شعب لبنان؟
منكم خرج جبران خليل جبران، الذي علّم العالم كيف يُكتب الحب والحزن والحرية.
منكم كنائس لا تزال تعزف على وتر الإنسان.
ومنكم من يبكي الحسين منذ 1400 عام، ومن ينادي بعدالة عمر بن الخطاب.
فكيف صرنا نخاف من بعضنا أكثر ، ونفرح لهزيمة بعضنا اكثر؟
كيف أصبحنا كـ”الثور الأبيض”؟
نضحك على الآخر وهو يُذبح… ولا نعلم من التالي.
يا شعب لبنان…
هزمنا الإسكندر المقدوني، هزمنا قرطاج، هزمنا اسرائيل عام 2000 التي احتلتنا بقرار امريكي، وأخرجنا الاحتلال السوري 2005 الذي فوض بلبنان بقرار امريكي.
نحن صنّاع الحرية، كتّاب الحرف، “وطن الرسالة”، نحن منارات العالم العربي.
أين الصوت اللبناني في وجه آلة القتل الإسرائيلية؟
لا أطلب منكم القتال… بل الاعتراض، الغضب.
أين الإعلام؟ أين البيان والاقلام؟
أهالي الجنوب ليسوا غرباء.
هم من لهجتكم، من بيوتكم، من مقاعد طفولتكم.
أليس بينهم من باعكم خبزًا؟ من شارككم الأفراح والأتراح؟ من جلس معكم في الصف، وحمل معكم الحنين، وسكن بينكم في المدن والأحياء الشعبية، قبل أن تجتاحنا الطائفية؟
أنا أفهم أن يقتلنا العدو، أن يحتل أرضنا، أن يحرق الحقول…
لكن لا أفهم أن يحتل وجداننا، أن يُسكت صوتنا، أن يسرق انتماءنا بصمتنا.
كلامي هذا ليس موجّهًا للمتنازعين سياسيًّا، بل للشريحة اللبنانية التي دفعت ثمن حروب الآخرين على أرضنا.
هذا الصمت ليس حيادًا…
بل دمارٌ للبنان، الذي تميّز بدوره الحضاري التفاعلي بين شعوب المنطقة.
بل خيانةٌ للإنسانية، للوطنية، وتحرّرٌ من كلّ ما يجعل الإنسان إنسانًا.
ونحن اللبنانيين، قبل أن نكون طائفيين، نحن إنسانيون.
لماذا صرنا شعوبًا لا شعب… أوطانًا بلا وطن، وكل طائفة تحسب نفسها أمة.
ويلٌ لنا جميعًا.