الجمعة - 16 مايو 2025
منذ 3 أسابيع
الجمعة - 16 مايو 2025

رياض الفرطوسي ||

 

في زمنٍ بهت فيه الضوء، وتكاثفت فيه الظلال على جسد الفن،تمضي السينما والمسرح في العراق بخطى حذرة، تبحث عن ملامح طريق واضح وسط تعقيدات الواقع وتحديات الزمن. لا بطولات تُصنع، ولا حكايات تُروى، بل شخوص جوفاء تسير في مشهد بلا عمق، بلا روح. الساحة الفنية اليوم لا تشبه أحلام من سبقونا، بل تكتظ بمن تسللوا إلى الضوء من أبواب خلفية، تاركين أبواب الإبداع مغلقة على مبدعين لم يُمنحوا فرصة.

صناعة البطل ليست مسألة طارئة. إنها علم وفن، تحتاج إلى كتّاب يؤمنون بالمعنى، إلى رؤى تُبنى على الوعي، لا على المجاملة أو الانتماء إلى الشلة. البطل ليس جسداً على الشاشة، بل فكرة، رمز، ذاكرة تُلهم. ولكننا اليوم أمام مشهد تمثيلي مكرور، تحوّل فيه الممثل من مبدع إلى “قارئ حوار”، والمخرج من قائد بصري إلى مجرّد منسق اجتماعي.

المشكلة أعمق من مجرد أداء. إنها تبدأ من الورق، من سيناريو لا يُكتب بل يُركّب، ومن رغبة محمومة لأن يظهر اسم هذا أو ذاك في التايتل. هكذا ضاعت القصة، وضاع البطل، وضاعت معه الهيبة التي كنّا ننتظرها من فنٍّ يُفترض أن يحمل الوعي والجمال معاً.

ثم جاء عصر الديجيتال، ففتح الباب واسعاً أمام طوفان من “صنّاع أفلام” لم يمروا يوماً ببوابة الفن، بل دخلوا بشعار “الاختلاف”، وهم يصنعون سينما تُجمل الرداءة، وتعبث بالحواس تحت مسمى الجرأة. إنه عصر “الإرهاب السينمائي”، حيث كل شيء مسموح باسم كسر التقاليد، حتى وإن كُسرت معها القيم والمضمون.

ورغم كل هذا، لا يمكن إنكار وجود تجارب لامعة، صادقة، حاولت أن تشق طريقها في هذا الركام. لكنها قليلة ومحدودة، محاصَرة بأصواتٍ عالية تُجيد الترويج لا الإبداع، فتظل تلك الأعمال كنجوم بعيدة لا يراها إلا من يحدّق في السماء طويلاً.

ومن الظواهر التي تُضاف إلى هذا المشهد المعقّد، ما نراه من دخول أبناء الفنانين إلى الوسط الفني من دون مؤهلات حقيقية، كأن الفن إرث يُورَّث لا إبداع يُصنَع. بعض هؤلاء لا يمتلكون لا الموهبة ولا الخيال، بل فقط الاسم، فيُفتح لهم الطريق بينما يُغلق في وجه من يحمل جوهر الفن لا نسبه.

أما المهرجانات، فقد أصبحت مناسبات لتبادل المجاملات. لا يوجد معيار واضح، ولا دعوات حقيقية للمبدعين أو النقّاد، ولا جلسات نقاش تصنع وعياً. إنها عروض سطحية لا تترك أثراً، ويكفيك أن تسأل: كيف يُكرَّم البعض؟ وبأي منطق يُدعى آخرون؟

وفي زحمة هذا الضجيج، يخرج صوت نقيّ من بين الركام، صوت الفنان جمال أمين، الذي قالها بوضوح في إحدى مقابلاته الصحفية: “نحن جيل مغبون، لم يُتح لنا أن نصنع مدرسة سينمائية عراقية حقيقية، كانت كلها مجرد محاولات فردية تموت قبل أن تُزهر، بسبب غياب الدعم، والمؤسسات، والرؤية الواضحة.” شهادة لا تنبع من مرارة، بل من محبة صادقة للفن، ومن خيبة مبدع أراد أن يرى المعنى في مكانه، لا على هامش مهرجان.

لكن، وسط كل ذلك، يظل الأمل قائماً. ما الذي يمنع الجهات الثقافية من الاتفاق مع المدارس والجامعات لعروض صباحية تزرع الذائقة منذ الطفولة؟ ما الذي يمنعنا من جعل المسرح مدرسة للفكر، لا صالة لحفلات نُخبوية مملة؟ الأمر ليس صعباً، لكنه يحتاج إلى قرار، إلى قلب لا يرى الفن ترفاً بل ضرورة.

الفن ليس مجرد ترفيه. إنه مرآة شعب، وحصن وعي، وذاكرة أمة. فإن كانت مرآتنا اليوم مشوشة، فالخلل ليس في الزجاج… بل فيمن يقف خلف الكاميرا، وفيمن يدير الخشبة.

حين تضاء الخشبة أو تشتعل الشاشة، لا يكفي أن يظهر وجهٌ مألوف… نريد معنى. نريد حقيقة. نريد أبطالاً… لا أبطالاً وهميين.