لا سيادة بين العولمة والليبرالية..!
محمد شريف أبو ميسم ||
قبل نحو سبعة عشر عاما وتحديدا في 12 آب 2007 أشرنا في مقال لنا نشر في جريدة المدى تحت عنوان “أثر العولمة في طبيعة العمل المصرفي” ، الى أن العولمة وفق الدلالات العامة، تشير الى اندماج أسواق العالم أولا عبر حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة ، فضلا عن تماهي الثقافات والانماط الاستهلاكية، في اطار رأسمالية الأسواق أو ما يسمى بـ”ليبرالية السوق”، ما يعني خضوع الدولة التقليدية لقوى السوق العالمية بعد الغاء الحدود القومية والتدخل في سيادة الدولة.
وفي العالم 2011 قدم لنا الاقتصادي “داني رودريك” الاستاذ بجامعة هارفرد في كتابه “مفارقة العولمة”، معضلة ثلاثية شهيرة، مفادها ” ان من المستحيل الجمع بين العولمة الاقتصادية المفرطة، والسيادة الوطنية، والعمل بالديمقراطية في وقت واحد، مع امكانية التعاطي بين اثنين فقط من تطبيقات هذه المفاهيم”.
ومع دخول العالم في ارباكات الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على حلفاء الولايات المتحدة قبل أعدائها، عادت الحمائية الى الواجهة بدعوى حماية السيادة ومنع نفوذ رأسمالية الآخرين من التغول داخل أسواق الدولة التقليدية، في انتهاك صارخ لما تبنته الرأسمالية الأمريكية، وروجت له عبر مؤسساتها الثقافية على مدار عقود مابعد الحرب الباردة بهدف الهيمنة على العالم، مستغلة تفوقها العلمي والاقتصادي والعسكري.
والحمائية هذه نقيض العولمة التي تعدت حدود عولمة الأمن والثقافة والسياسة، وعولمة الأسواق وعولمة الانتاج الى مساحات الاحتواء الاقتصادي، وعولمة الأمن الغذائي، عبر احتكار شركات العولمة لانتاج وتجارة البذور المعدلة جينيا، وصولا الى عولمة وسائل النقل والمطارات وحركة التجارة العالمية، حتى عولمة السجون من خلال شركات العولمة الأمنية.
ولفهم هذا التحول في السياسة الأمريكية، استدعيت “معضلة رودريك الثلاثية” في أروقة السياسة والمؤسسات المعنية بالاقتصاد السياسي هذه الأيام، في محاولة لاعادة النظر بما يحدث، قبل أن يتصدع النظام العالمي الذي قدمته مؤسسات العولمة بحلة الحرية والملكية وانفتاح الحدود والرخاء المشترك.
وباختصار فان السيادة تعني “الحق الكامل للدولة وسلطتها على نفسها، دون أي تدخل من جهات خارجية”، فيما يشير مفهوم العولمة الى ازالة حدود الدولة التقليدية والاندماج في نظام عالمي تتماهى فيه الثقافات والأسواق ومقومات الأمن والاقتصاد، ويتساوق مفهوم الليبرالية بوصفه دالة للحرية وحق الملكية مع الديموقراطية بوصفها دالة لحكم الشعب.
ومنذ انطلاق مراحل التطور الهائلة في حقول اقتصاد المعرفة، مع الرغبة الجامحة لهيمنة الرأسمالية العالمية على مقدرات العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، ألبست الرأسمالية حلة الليبرالية الجديدة، بهدف احلال سلطة رأس المال محل سلطة الدولة التقليدية في ظل العولمة (بدعوى حق الملكية والحرية المطلقة والمسؤولية الغير ملزمة)، وهذا التسويق انطلى على مساحة العقل الجمعي في الدول التي تحكمها الدكتاتوريات، والتي انتقلت حديثا للنظم الديموقراطية.
ومن هنا وهناك، حيث السياسة الترامبية، بدا جليا للعالم أجمع، أن لا سيادة لدولة ديموقراطية ليبرالية لا تضع حدا لتغول شركات العولمة التي تحكم العالم، بعد أن أفرزت تجارب حلفاء الولايات المتحدة، ان الحكومات والأحزاب النافذة والرموز السياسية وموازين القوى داخل وخارج حدود الدولة التقليدية التابعة للنظام العالمي الجديد، هي نتاج لارادة هذه الشركات التي تتحكم بما يسمى المشهد الديموقراطي في النظم الليبرالية،
وبالتالي فان ديموقراطية رأس المال في النظم الليبرالية تحت مظلة العولمة هي التي تحدد مسارات السياسة وتحالفاتها في هذه الدول. ورب ضارة نافعة، فقد يكون في سياسة العصى والجزرة التي تستخدمها ادارة ترامب بشكل مفرط وغير مسبوق في تعاملها مع حلفاء الولايات المتحدة، ما ينفع العقل السياسي المنساق كليا نحو فكرة السير في ركاب نموذج الدولة الديموقراطية الليبرالية في ظل العولمة، التي لن تعرف معنى السيادة بشهادة “داني رودريك” وليست بشهادة العبد الفقير الى الله.