السبت - 07 يونيو 2025

بين المزاح والتمييز: قراءة في وصف (جلحة) الذي أشعل الجدل..!

السبت - 07 يونيو 2025

ضياء أبو معارج الدراجي ||

 

 

في لقاء تلفزيوني أثار ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت سيدة خاضعة لعمليات تجميل إلى جانب ابنتها، لتبادر الأم بقولها لابنتها أمام المذيعة: “ابتعدي من الكامرة”. فردت المذيعة متفاجئة: “هاي بنتك؟”، فأجابت الأم: “إي نعم، بس جلحة”،

وهي كلمة دارجة في اللهجة العراقية يُقصد بها لون البشرة المائل إلى الرمادي أو “الملحي”، أي ما بين السمار والبياض، وتُستخدم أحيانًا بوصفٍ غير مُحبب، خاصة في الأوساط التي تُمجّد معايير جمال سطحية.

الفتاة كانت حاضرة بابتسامة متحفظة ومظهر طبيعي لا يشير إلى أي تدخّل تجميلي. وعلى النقيض، بدت الأم والمذيعة بملامح تخضع لمعايير الجمال المعاصر القائمة على التفتيح والشد والتعديل بالعمليات الجراحية المكثفة. هذا التناقض في الشكل، إلى جانب جملة الأم، أثار موجة من التعليقات ما بين الغضب والتعاطف، وفتح بابًا للتساؤل: هل كانت الأم تمزح مع ابنتها، أم أنها عبّرت عن تمييز دفين ضد لون بشرتها أمام جمهور واسع؟

تحليل نفسي واجتماعي للموقف:

1. “ابتعدي من الكامرة”:
عبارةٌ توحي بالإقصاء، ولا سيما أنها جاءت من أم إلى ابنتها في لحظة يفترض أن تكون عائلية ومليئة بالفخر، لا الإبعاد. تلتها جملة “بس جلحة” التي تُشبه في وقعها عبارة: “ليست بمستوانا الشكلي”، وهو ما يفتح بابًا لتساؤلات حول معايير الأم في تقويم ابنتها: هل الجمال يُقاس باللون؟ أم بالجوهر؟ أم حسب عدسة الكاميرا فحسب؟

2. معنى “جلحة”:
في العامية العراقية، يُستخدم وصف “جلحة” للإشارة إلى من يمتلك لون بشرة رمادي أو ملحي، وقد يُقال أحيانًا بنوع من التهكم، خصوصًا في بيئات تتأثر بالصور النمطية عن الجمال المرتبط بالبشرة البيضاء. هذا الاستخدام يُعيد إلى الواجهة واحدة من أكثر المشاكل الاجتماعية حساسية: التمييز اللوني داخل البيوت قبل أن يكون في الشارع.

3. رد الابنة:
خرجت الفتاة لاحقًا في مقطع فيديو توضح أن “جلحة” هو اسم الدلع الذي تناديها به والدتها، محاولة نفي وجود أي نية للإساءة. إلا أن هذا الرد بدا للبعض محاولة لتلطيف الموقف، أو ربما لحماية صورة الأم بعد أن تحوّلت إلى محور نقد واسع. هذا التفسير بحد ذاته يُشير إلى خلل أعمق: حين يُجبر الابن أو الابنة على تبرير الإهانة دفاعًا عن الأسرة أمام المجتمع.

4. المذيعة:
ردّ فعل المذيعة لم يكن تصحيحيًا، بل اتسم بالتواطؤ الصامت. الموقف بكامله بدا وكأنه يُرسّخ مفاهيم مشوّهة للجمال، ويمنح الأفضلية للأم المتصنعة والمُحسّنة طبيا على حساب ابنة تظهر بجمال طبيعي وبريء.

ليست القضية في كلمة عابرة فقط، بل في نظرة اجتماعية تتغلغل في الخطاب العائلي قبل أن تخرج إلى الإعلام. حين تُقيّم الأم ابنتها بلون بشرتها، أو تهمّش حضورها في لقاء عام، فإن الأمر يتجاوز المزاح ليلامس حدود التنمّر الأسري. وحين تُضطر الابنة للتبرير علنًا، فهذا مؤشر على خلل ثقافي يجعل الضحية تتحمّل عبء تبرئة الجاني.

لم تكن كلمة “جلحة” مجرد وصف بريء، بل مرايا تعكس ما استبطنه مجتمع بأسره من أفكار مغلوطة عن الجمال. الجمال لا يُقاس بالتفتيح ولا بإبر التجميل، بل بالقَبول والاعتزاز بالنفس. والأمومة ليست تصدّراً أمام الكاميرات، بل حُبًا يرفَع، لا يُقصي.
وربما، من قلب هذا الجدل، نستطيع أن نعيد طرح السؤال الأهم:

هل نُربّي أبناءنا على احترام أشكالهم الطبيعية، أم نزرع فيهم شعورًا خفيًا بالنقص؟

ضياء ابو معارج الدراجي