الجمعة - 29 مارس 2024

عندما يُختصر الدين في طقوس رقمية

منذ 4 سنوات
الجمعة - 29 مارس 2024



علياء الانصاري *||

منذ الصباح الباكر، تزاحمت صفحات الفيس بوك بالاعلان عن قدوم شهر ذي الحجة، وما يجب علينا ان نقوم به من صلاة وصيام.. وخاصة هذه التي تقول ان من يصلي كل ليلة من الليالي العشر الاولى من شهر ذي الحجة ركعتين، فانه سيشارك الحجاج ثوابهم وان لم يحج.
لست ضد الصلاة، فليصلي العالم أجمع، ولكن لا تربطوا الدين بعدد ركعات أو طقوس معينة.. هل هذا يعني أن كل من صلى ركعتين ليلا في العشر الاولى من شهر ذي الحجة سيكون حاجا؟!
وماذا عن السعي في النهار؟ كم مرة كذبنا؟ كم مرة غشينا الناس؟ كم مرة نافقنا؟ كم مرة كانت المصلحة أهم من المبدأ؟ كم مرة أكلنا حرام؟ كم من مرة ظلمنا الآخرين الأضعف منا؟ كم مرة جرحنا مشاعر الآخرين؟ كم مرة صادرنا حقوقهم؟ ووووو
هل ركعتي صلاة توجبان الحج؟!
اعتقد نحن بحاجة الى ثقافة جديدة في الخطاب الديني، الذي يسمو على تفعيل قائمة مجموعة من الطقوس على حساب المعاملات والأخلاق.
لحقبة طويلة دأب الخطاب الديني والفقهي على الترويج الى عدد الركعات والصلوات وطقوس العبادة، لا أنكر أهميتها، هي مهمة جدا لصقل شخصية الانسان وتقوية علاقته بربّه.. ولكنها ليست الأساس.
وعلاقتنا بالله تعالى لا تُقاس بعدد الركعات وطقوس العبادة، فقد كان (ابليس) أكثر الملائكة وأهل السماء في حينها ركوعا وسجودا، كان يسمى (طاووس الملائكة) ويُنعت ب (خطيب الملائكة).. ولكنه في أول موقف تضاربت فيه مصالحه مع إرادة الله.. أعلن تمرده!! ولم تنفعه عدد ركعاته وعبادته للآلاف السنين..
الخوارج كانوا يقرأون سورة البقرة في صلاة الظهر.. عندما تضاربت مصالحهم مع الحق، حاربوه!!
ثم ماذا يعني الحج؟! هل هو عملية طواف جسدي حول الكعبة في جملة من الطقوس المعتادة؟ أم هو حجٌ الى الله.. وطواف حول الذات الإلهية لنعلن إنتمائنا إليها.. وهذا الإنتماء له ثمن باهض.. فعلينا أن نخلع كل متعلقات الدنيا ومصالحها واهوائنا ورغباتنا ونرتدي ثباب الطهر والعفة..
وهذا لعمري أمرٌ ليس بالسهل.
لذلك قالها الامام الصادق عليه السلام: (ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج).
دعونا نعيد تركيبة الخطاب الديني والفقهي في الكثير من تفاصيل الحياة ومنها تفصيلة الحج، لندعو الى صلاة الليالي العشر، ولكن مع تدابير وسلوكيات حقيقية للتدين والقرب من الله تعالى، لن أُكتب مع الحجاج لأني صليت عشر ليالي متواصلة.. أبدا.. سأكتب مع الحجاج لأني كنت طائفا حول الله في تفاصيل يومياتي..
الطواف حول الفقراء والمستضعفين، الطواف حول المجتمع لتقييم احتياجاته وترميم تصدعاته، الطواف حول القلوب الموجوعة والحزينة، الطواف حول الارواح التائهة، الطواف حول الوجع في مكامن النفس البشرية في أي مكان على هذه البسيطة.
ما يجعلك حاجا، هو عمق طوافك حول القلوب الكسيرة ومقدار ما تقدمه لها من خير وعطاء.
وفي هذا العام الذي لن يذهب اليه حتى (الحاج الحقيقي)، ممكن وبسهولة جدا ان نُكتب من حجاج بيت الله الحرام، بنفقة أموالنا التي خصصناها للحج أو بعض منها لقضاء حوائج الناس او ترميم تصدعات المجتمع وما أكثرها..
لم يعد الجوع وحده هو الوجع الحقيقي الذي نطوف حوله، بل اصبحت الصحة وجعا حقيقا آخر.. وأصبح الدعم النفسي للناس وجعا حقيقا آخر لما نعانيه الآن من جفاء وقسوة في مجتمعنا وبصور متعددة.
المستشفيات بحاجة الى طواف..
المدارس بحاجة الى طواف..
بيوت الفقراء بحاجة الى طواف..
القلوب المتعبة وما أكثرها بحاجة الى طواف.. الامهات الثكالى.. الارامل المتعبات.. اليتامى.. ووو
الدين جاء لأجل ترميم تصدعات النفس البشرية وتصدعات المجتمعات الانسانية..
فكل ما يساهم في ترميم هذه التصدعات فهو في صلب الدين.
نحن بحاجة الى إعادة النظر في كثير من التفاصيل المهمة والحياتية في رؤيتنا لمفهوم الدين وعلاقتنا بالله ..
ومنها مفهوم (الحج والطواف)..
خاصة وأننا نملك موروثا ثقافيا ومعرفيا كبيرا بهذا الخصوص، منه الحديث القدسي الذي يقول: (ما وسعتني ارضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)..
نعم، هو هنا.. في قلوبنا.. فلماذا لا نطوف حوله يوميا؟!
الطواف يعني ان نخلع ثياب الكذب والغش والنفاق والغيبة والنميمة وانتهاك اعراض الناس وانتهاك حقوقهم .. ونرتدي ثياب الطهر والعفة والنزاهة.
لم يخبرنا الله، بأنه سيجمع لنا عدد الركعات وعدد التسبيحات لينفعنا في عالمنا الآخر..
بل أخبرنا بان العمل الصالح هو الرصيد.. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..
نعم القلب السليم هو ما يريده الله منا.. القلب الطاهر، المفعم بالحب للناس كلهم، بالتسامح، بالرحمة، سليم من كل أمراض الحقد والكره والغيبة والكذب والنفاق..
قلب سليم هو الذي يسكنه الله تعالى..
والقلب السليم هو وحده من يكون قادرا على تحدي صعاب الحياة والاستمرار في العمل وإنتاجية الحب والخير للناس، كل الناس.
هذا هو الدين بعبارة بسيطة ومفهوم بسيط..
فمن أراد ان يرى نفسه من الحجاج أم لا..
فلينظر الى سلامة قلبه، والى صنيع يده في مجتمعه.
فليعيد الخطاب الديني والفقهي، رؤيته في فلسفة الدين والقرب من الله تعالى..
الدين جاء ليسمو الإنسان من خلاله ويرتقي بالعمل الصالح والرحمة والمحبة.
والطقوس العبادية هي أحدى الادوات في مسيرة السمو والارتقاء، ولكنها ليست الغاية المنشودة، ولا أصل المقال.

*كاتبة والمديرة التنفيذية لمنظمة بنت الرافدين
ـــــــــــــ