الخميس - 28 مارس 2024
منذ 3 سنوات
الخميس - 28 مارس 2024


🖊️🖊️ محمد شرف الدين ||

فالإنذار والتذكير اللّذان ورد في القرآن ذكرهما كهدفٍ لنزوله ، كما في بعض الآيات التي استعرضناها ، كذلك ورد ذكرهما كمهمّةٍ يتولاّها الأنبياء في عملهم ، هذا الإنذار يمثِّل جزءاً من مهمّة الأنبياء ، وجانباً من الهدف القرآني والأُسلوب الرئيس لتحقيق عملية التغيير الاجتماعي.
ويتّضح ذلك عندما نلاحظ (الإنذار) مذكوراً إلى جانب قضايا أُخرى يتكفّلها القرآن والنبي :
{قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس : 57].
فالموعظة إلى جانب الشفاء والهدى والرحمة.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف : 157].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانب تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال.
كما أنّ الإنذار يقترن في كثيرٍ من الآيات بالبشارة :
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ} [البقرة : 213].
ولعلّ هذه الآية الكريمة تلقي الضوء بشكلٍ واضح على دور الإنذار في القرآن وعمل النبيّين ، وأنّ الإنذار مهمّة يقوم بها النبيّ إلى جانب الكتاب الذي يحكم بالحق ، ويحل الاختلافات ، ويهدي إلى المنهج والصراط المستقيم.
وإذا عرفنا أنّ المعادلة الأصليّة للدين تتوقّف على قضيّة (الإنذار) بالعقاب و(البشارة) بالثواب في الدار الآخرة ، عرفنا السبب في تأكيد القرآن الإنذار هدفاً لنزوله ومهمّةً للأنبياء ، ذلك أنّ صورة الحياة ومقاييسها التي يعتمدها الدين في القسط والميزان ترتبط بشكلٍ رئيس بقضيّة الحياة الآخرة والبشارة بالثواب والإنذار بالعذاب فيها.
وإقامة الحجّة على الناس تجاه القضايا التي يطرحها الدين والنبي تدخل كعنصرٍ أساسي في هذه المعادلة ، ولذا أكّد القرآن هذا المفهوم.
كما أنّ تأكيد مهمّة النبي هي (الإنذار) أو (البلوغ) أو (إقامة الحجّة) ، وحده يمكن أن يكون لمعالجةٍ نفسيّة للنبيّ الذي قد يتصوّر أنّ تحقيق التغيير ـ الخارجي ـ من مسؤوليّته ، بحيث عندما لا يتحقّق هذا التغيير في الخارج يكون النبيُّ أمام موقفٍ حَرِجٍ عند الله ، بالرّغم من بذله لكلِّ ما في طاقته من الجهد لتحقيقه؛ ولذا جاء تأكيد القرآن :
أنّ مهمّة النبيّ والرسول تنتهي عند تحقيق الإنذار والبلاغ الأفضل :
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء : 3 ، 4].
وحينئذٍ يحدّد القرآن المسؤولية بـ (الإنذار)؛ وهناك فرقٌ بين المسؤولية وبين المهمّة والهدف الذي يتولاّه النبي ، فالنبيُّ عليه أن يبذل كلَّ طاقته ، وهو مسؤولٌ عن الإنذار وإقامة الحجّة.
وأمّا التغيير فهو وإن كان هدفاً له ومن المهمّات التي يسعى إليها ، ولكنّه ليس مسؤولاً عن النتائج الخارجيّة له وعن تحقيق الهداية ، وإنّما عليه أن ينجز (المقدّمات الأساسيّة لها) وهما الإنذار والبلاغ :
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ…} [القصص : 56].
كما أنّ تأكيد قضيّة الإنذار أحياناً ، لتوضيح أنّ النبيَّ ليس له طمعٌ في السلطان والجاه والأجر المادي ، وإنّما يريد القيام بواجبه وبمسؤوليّته وهي الإنذار :
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس : 71 ، 72].
2ـ وضرب الأمثال في القرآن إنّما جاء من أجل الإنذار والتذكير ، كما أشارت إلى ذلك بعض الآيات :
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [الزمر : 27].
3ـ وعندما يكون القرآن حجّةً وبرهاناً ومعجزة ، فهو يساهم في عمليّة الإنذار والهداية ، ولذلك نجد أنّ البرهان يقترن بالهداية والنور والصراط المستقيم في القرآن نفسه :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء : 170].
4ـ وتفصيل الأحكام يمثِّل المنهج الذي تعتمد عليه عمليّة التغيير بصورةٍ أساسيّة ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ ولذا يقترن تبيان كلِّ شيءٍ بالهداية والرحمة في القرآن ، الهداية التي تمثِّل المنهج والصراط المستقيم :
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل : 89].
5 ـ وهكذا هدف الفصل وحسم الخلاف والتفريق بين الحقِّ والباطل ، حيث إنّ هذا جزء من المنهج العام والهدى والنور(2).
6ـ (وتصديق) الرسالات وتكميلها الذي أُشير إليه في بعض الآيات هدفاً للقرآن ، لا يعني أنّ التغيير ليس (جذريّاً) في المجتمع؛ لأنّ الانحراف الاجتماعي قد يصل إلى مستوىً بحيث يكون المجتمع بعيداً عن منظور الرسالات السابقة وتأثيرها فضلاً عن الرسالة الجديدة ، وهذا ما يؤكِّده القرآن الكريم في مناسباتٍ عديدة ، خصوصاً عند مناقشته لأهل الكتاب وتعصّبهم وانحرافهم وشرائهم بآيات الله ثمناً قليلاً.
فالقرآن في الوقت الذي يكمّل الرسالات السابقة ويصدّقها ويهيمن عليها في عملية الإصلاح والكمال ، يقوم أيضاً بعملٍ (جذري) تجاه المجتمع الذي ابتعد (عمليّاً) عن منظور تلك الرسالات ومفاهيمها ، ويبيّن تلك الرسالات التي تعرّضت للتحريف على مستوى (النظرية) والأفكار والمفاهيم ، إضافةً إلى بُعد المجتمع عنها على مستوى الواقع العملي ، أي على مستوى (النظريّة) و(التطبيق) معاً.
وتُصبح عمليّة التصديق للرسالات والهيمنة عليها جزءاً من الهدى والصراط المستقيم ، الذي يمثِّل عمل كلِّ الأنبياء والرسُل.