الخميس - 28 مارس 2024

في ضوء سيرة أم البنين(ع)

منذ 3 سنوات
الخميس - 28 مارس 2024


📌🖊غدير التميمي ||

بعد ان تهيأت عند الإمام علي عليه السلام فكرة الزواج بعد وفاة سيدة نساء العالمين، قال لأخيه عقيل بن أبي طالب الذي كان احد الذين يتحاكم إليهم الناس في علم الأنساب : (يااخي انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من بني العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارسا) .
إن طلب الإمام هذا لايعني انه بحاجة الى من يشخص له مرابض الشجاعة في قبائل العرب ، وهو البطل الفارس الخبير بأسرارها ( وكم سائل عن أمره وهو عالم..).
فأيّ هدف كان ينشد الإمام في صيغة طلبه هذا..؟
إن معرفة الإمام بشجاعة وفروسية الأقوام لم تمنعه من تبادل الرأي ، فعلى الرغم من علمه الواسع وأدبه الجم وانه الأعلم بعد رسول الله صلى الله عليه واله بإمور الدين والدنيا ، فإن صيغة الطلب التي تقدم بها لأخيه عقيل لينظر له امرأة يتزوجها ، إنما هي صيغة الحكيم المجرب ذي النظرة البعيدة المدى التي حرص فيها على نبذ الانطواء على الرأي الشخصي ، لكي لايبقى ذلك الانطواء سنّة تتبع أو عذرا يُصطنع، لذلك لم يكتف الإمام برأيه الشخصي رغم صواب مضمونه وأهدافه، قاصدا من ذلك ديمومة المساعي الحسنة وتبادل الآراء ،لتتعزز بذلك الأواصر وتتقارب العلاقات وصولا الى سلامة النتائج ، وقد تمخض عن تلك المضامين الفكرية ولادة حكمة له عليه السلام يقول فيها: ( من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
وكان جواب عقيل لأخيه الإمام : ياأخي تزوج فاطمة بنت حزام الكلابية فإنه ليس في العرب على وجه الإطلاق أشجع من آبائها..
لقد شاءت إرادة الله تعالى ان يقترن إمام المتقين بفاطمة بنت حزام ،وتمتزج الروحان فإذا بكيانها يلفّه فيض من النور المتوهج من كيان علي ، ومن هنا بدأت خطواتها تتنقل في أروقة الإمام ، لتضيف الى سمو غرسها ونجابة اصلها ألوانا أخرى جديدة هي مما خص الله بها أولياءه الطيبين الطاهرين ، فما علمته من بلاغة قومها في خطبهم وإشعارهم رأته هامشا صغيرا في عالم بلاغة الإمام.
أما عن مآثر البطولة والفروسية فهي كلما أرادت ان تستجمع صورا منها في ذاكرتها يشخص أمامها ذو الفقار محدثا اياها ببريقه حديث أسرار القوة المودعة في علي وموثقا بأنه السيف الذي قدر له ان يقترن بالإمام دون غيره حتى تشرفت قراطيس التاريخ بمقولة ذلك الاقتران الخالد :
لافتى الا علي لا سيف إلا ذو الفقار
وتفاعلت نفس فاطمة مع هذه الأجواء حتى استنهضت فيها كوامن ماورثته من أصلابها ..
إذ سرعان ما بدأت مظاهر الصفات الوراثية المتميزة تتجلى في سيرتها مع الإمام وولديه السبطين عليهم السلام.
ففي أول ليلة زواجها سالت الإمام ان يغير اسمها قائلة: اخشي ان تخاطبني بفاطمة فيتذكر الحسنان أمهما عليها السلام فقال عليه السلام حسنا يا ام البنين ، وكان اختيار الإمام لهذه الكنية اختيارا مُلهما وإلا لكناها بأم فلان او فلانة او بأي صفة كريمة كقوله يا أم الخير ويا أم المكارم وهكذا مهّد هذا الاختيار المبارك لتلج أم البنين بيت علي فتسمع كلاما هو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ينساب الى مسامعها بمضامين متنوعة تعالج مختلف شؤون الحياة.
وهكذا شاء الله عز وجل ان ترتشف أم البنين من معين النبوة والإمامة رحيق المعرفة والأدب والخبرة والدراية ، ولاشك في ان هذا الكم الهائل من الخبرات المتنوعة في شؤون الحياة ليس من اليسير لكل متلق استيعاب مضامينه ، فقد أكدت الدراسات ان ليس لكل إنسان القدرة على اختزان الخبرات التي تعرض له في حياته من خلال علاقته مع القريبين منه فوراثة قدرة معينة على التخزين يعني ان هناك استعدادا فطريا موهوبا.
إذ لو لم تكن المسألة مسألة موهبة ، لما بدرت منها رضوان الله عليها لمحات الإدراك الحسّي المتميز وهي في أول أيامها مع الإمام ولها من العمر مابين (10-11) سنة تقريبا ، ففي ضوء إدراكها الحسي الذي أهّلها الى ذلك وقدرتها على الاستنتاج السريع استطاعت أم البنين أن تقيم علاقات فيما بين ما لاحظته وهي عند أهلها وبين خبراتها الجديدة التي تم اكتسابها وهي في رحاب الإمام (ولما كان من طبيعة الخبرات ان تتجاذب وتتآلف وتتحد فيما بينها في عملية ينجم عنها إنجاب خبرات جديدة ) فقد تحقق ذلك في سيرة السيدة الجليلة وهي تغترف في خضمّ حياتها الخاصة النماذج العظمى في كل الأشياء مما ورثته من آبائها ومما حباها الله تعالى به من ثروة الإمام العلمية والاجتماعية والتربوية ، الثروة التي استقاها عليه السلام وهو تحت وهج الأنوار المحمدية طيلة أكثر من ثلاثين عاما ,
وفي ضوء ذلك بدأ التلقي في أجواء هذه المدرسة الكبيرة مُدافا مع مصْل الأصالة الكائن في العروق الطاهرة ، وحسبُ من يبحث بيولوجيا في شؤون هذا البيت المبارك أن يجد ذلك التوافق الفريد بين الوراثة والبيئة ، فالأصلاب سامية سامقة نقية زكية ، والبيئة طاهرة مطهرة يشغل أجواءها رفيف الملائكة وأنفاس التسابيح.