رأي في كتاب (النقد الثقافي- رؤية جديدة)
أ.د. يوسف وغليسي
(النقد الثقافي- رؤية جديدة) كتاب نقدي ثقافي جديد للناقد العراقي د. حسين القاصد، صدر عن دار الصادق الثقافية ببابل منذ أيام قلائل.
قرأتُه بمتعة نقدية كبيرة، لا لصغر حجمه وطرافة موضوعه وحداثة منهجه فقط، ولا لأنّ نصيب الشعر العربي من النقد الثقافي لا يزال محدودا، بل لأنّ الكتاب ذاته مختلف عن غيره من الكتب التي تتقاطع معه موضوعا ومنهجا.
وحسين القاصد هو واحدٌ من آل البيت النقدي الثقافي العراقي (فضلا عن محسن جاسم الموسوي وبشرى موسى صالح وسمير الخليل،…) الذين نذروا جهودهم للدراسات الثقافية والنقد الثقافي، بحيث لا نكاد نذكر من الأسماء العربية التي تُجايل القاصد وتشاطره الهوس بهذا النشاط النقد سوى البحريني نادر كاظم ، والأردني يوسف عليمات (عليه رحمة الله)، والجزائري طارق بوحالة، وغيرهم قليل جدا.
لا أخفي أنني قرأتُ كتابه الأول (النقد الثقافي ريادة وتنظير وتطبيق- العراق رائدا) بانزعاج كبير، على الرغم مما فيه من مباحث جزئية طريفة!
ويرتد انزعاجي القديم ذاك إلى أمرين اثنين : أحدهما المبالغة التاريخية الكبيرة في محاولة نقل الريادة الثقافية العربية من عبد الله الغذامي إلى علي الوردي! وقناعتي بأنّ تحميل (أسطورة الأدب الرفيع) تلك الريادة لهي الأسطورة عينها؛ فأنّى لكتاب سوسيولوجي عربي صادر في نهاية الخمسينيات أن يكون رائدا لاتجاه نقدي لم يتبلور أصلا –في العالم كله- إلا في بدايات الستينيات!
وأّمّا الأمر الآخر فهو المبالغة في هجاء الغذامي والتهجم عليه بغير ذنب، ومؤاخذته بما لم يقترفه من خطايا!
ولا تفسير لذلك سوى سيكولوجية (قتل الأب) التي تفشّت في كتاب القاصد، وما أبرّئ حتى كتابه الجديد هذا من آثار يسيرة لتلك السيكولوجية (توطئة الكتاب، ص 62، ص 106)؛ ولا أدلّ على ذلك من أنّ القاصد الذي ينعت الغذامي بأسوأ النعوت (في الكتاب الأوّل خصوصا) ولا يكاد يوافقه في قول، نراه –في كتابه الجديد هذا- يمتدح مقولةً ويستشهد بها موثّقةً من كتاب لأحد الكتّاب، لكنّ المفاجئ في الأمر أنّ تلك المقولة المقتبسة (وهي فقرة ذات ثمانية أسطر: ص 63) إنّما هي مسروقة سرقة حرفية في أسطرها الثلاثة الأولى، والبقية محرفة تحريفا بسيطا جدا من كتاب الغذامي (يمكن الرجوع إلى ص 67 من كتاب الغذامي ومقارنة كلامه بما ورد في ص 49 من ذلك الكتاب!!!).
مع ذلك، فإنّ رؤية حسين القاصد في كتابه هذا كانت رؤية جديدة إلى حدّ بعيد، يمكن القول عنده إنّ الكتاب فريدٌ في بابه، متميّز بما استنبطه من أنساق ثقافية جديدة (نسق الاتكاء الثقافي، نسق الاتكاء الإيقاعي، نسق التعويض، نسق القصيدة المستعملة،…)، متفرّد بآلياته المنهجية المختلفة؛ حيث اجترح إجراءات وأبدع مداخل جديدة لا عهد للنقد الثقافي العربي بها؛ وقد استلهمها من المعجم البلاغي؛ أسوةً بإدوارد سعيد حين نسج (القراءة الطباقية)، وعبد الله الغذامي حين أبدع (التورية الثقافية)،…
وكذلك فعل القاصد حين أقام (الصورة الثقافية) و (التشبيه الثقافي) على أنقاض التشبيه البلاغي، وتفنّن في تفريع الصورة اللغوية والصورة التوضيحية والصورة النفسية، بحمولة ثقافية ثقيلة.
كما درس الإيقاع، والإيقاع بوصفه خديعة ثقافية، من موقع ثقافي جديد لا عهد للدراسات السابقة به.
وقد فعل ذلك كله اعتمادا على خطابات شعرية قديمة وحديثة، بعضها يتوفّر على شرط الجماهيرية (التي يشترطها النقد الثقافي الغذامي) كالمتنبي والمعري وعنترة ونزار والسياب والجواهري ودرويش وعبد الرزاق عبد الواحد، وبعضها تقل جماهيريته نسبيا خارج الحدود الثقافية العراقية (رحمان غركان، حمد الدوخي، محمد البغدادي، محمد صالح بحر العلوم،…).
وإذا كان النقد الثقافي، كما يمارس في عموم الجامعات العربية، قد حنّط محتواه وابتذل إجراءاته ولخّصها في جملة من الأنساق السطحية التي يستخرجها من النص كما يستخرج القارئ البسيط فكرةً عامّة أو أفكارا جزئية من نص ما، وفقا لثقافة التحليل المدرسي السائدة، فإنّ كتاب القاصد هذا يختلف تماما –في منطلقه وغاياته- عن مثل تلك الكتابات، وقد تجمّع في ساحة النقد الثقافي العربي كثير من المريدين الذين لا يتذوقون الجمال النصي، ولا يفهمون من النص الجميل سوى بعض ما أراد الناص أن يقوله!
وهو فهْم عامي سخيف، كان أسوأ ما ورثوه –بجهل أو سوء نية- عن مقولة الغذامي التي جعلت من النقد الثقافي بديلا للنقد الأدبي.
لقد قدّمت تلك الكتاباتُ (أدبيّةَ النص) قربانا لوجه النقد الثقافي، فدمّرت الشكل الجمالي للنص ولم ترَ فيه -في أحسن الأحوال- أكثر من “حيلة ثقافية” لتغليف الأنساق المضمرة، حتى تحوّل النص إلى مقولة فكرية أو شظية إيديولوجية، فكان ذلك اختزالا مشينا لعوالمه الجمالية.
ولم تنتبه الكتابات النقدية الثقافية المزيفة إلى إمكانية التعامل مع الخطاب الأدبي بوصفه “حادثة ثقافية” ولكن انطلاقا من شكله الفني، كما فعل القاصد في هذه المغامرة النقدية الجريئة التي غيّرت مواقع الانطلاق إلى الأنساق الثقافية المضمرة الكامنة في أعماق النصوص، وأثبتت أنّ في وسع الشكل الجمالي (الصورة، الإيقاع، اللغة،…) أن يكون منطلقا للتحليل الثقافي للشعر.
وعليه، فإنّ هذا الكتاب –في تقديري الشخصي- هو محاولة جيدة لإعادة قطار النقد الثقافي إلى سكته النقدية الحقيقية.
وإذا كان لا بدّ من اعتراض على شيء ما في هذا الكتاب القيّم، فإنني أعترض -قليلا- على عنوانه؛ لأنّ عنوانه المركزي (النقد الثقافي- رؤية جديدة) يشي بأنّ الكتاب يندرج ضمن نقد النقد، بينما هو في صميم نقد الشعر.
كما أنّ عنوانه الفرعي (الصورة الثقافية والتشبيه الثقافي في الشعر العربي) لا يخلو من حشو (من جهة)؛ حيث كانت الصورة تغني عن التشبيه، ومن جهة ثانية فإنّ هذا العنوان الفرعي لا يحيط إلا بجزء من محتوى الكتاب (التشبيه والصورة) ويهمل جزءا أهمّ هو المتعلق بالإيقاع الثقافي الخادع، ونسق الاتكاء الثقافي إيقاعيا.
ولو كنتُ صاحب الكتاب لفضّلتُ –على سبيل المثال- أن أسمّيه (بلاغة الشعر العربي من منظور النقد الثقافي).
بل ربّما لو أخَذَ المؤلِّف الجملة الواردة في (ص 14) والتي تتحدّث عن البحث “في جمالية الشعر من منظور النقد الثقافي”، وجَعَلها عنوانا شارحا لعنوان كتابه، لكان أفضل!
وليس لي أخيرا إلا أن أهنّئ النقد العربي بهذه القيمة النقدية العراقية المضافة.