الجمعة - 29 مارس 2024

سلطة الأنطلوجي على التّاريخي..التاريخ بين أساطير الأولين والآخرين

منذ سنتين
الجمعة - 29 مارس 2024


ادريس هاني ||

التّاريخ علم بالماضي: هل هو تعريف علمي أم تعريف مسامحي؟
نمارس التاريخ حوليا شموليا أو أفروديا مونوغرافيا، كما لو أنّنا في قلب العملية العلمية؟ الأخطر هو حينما نجعل من التاريخ، وهو حقل مضطرب بصور الأحداث ووجهات النّظر المتدابرة كأساس للحقيقة.
أحكام المؤرخ أكبر مما يتيحه الفعل التاريخي، إنّها أحكام تستند إلى الأسطورة، تلك الثقوب الكبيرة في الجدار التاريخي هي ممرات مفتوحة لتدخّل الأسطورة؛ التاريخ لا زال عاجزا أمام الأسطورة، إن لم نقل هو في حاجة إليها.
يتعين على المؤرخ الحصيف، وقد بات التأريخ بلاء باعتباره سعيا لفهم التحولات الاجتماعية، أن يدرك هذه الحقيقة، كونه يتحمّل مسؤولية التأويل الصحيح للحدث، وفي هذا السياق وجب أن يتحلّى بالنّزاهة، لكن متى كانت الصناعة التاريخية بيئة للنزاهة؟ من يا ترى يملك أن يتعاقد مع الضمير في كتابة التاريخ؟ متى كانت صناعة التاريخ صناعة حرّة.
لا يتحمل الإنسان أن ينظر إلى ماضيه كخلاء، فهو يخشى من وحشة المستقبل، إنّه حتى في لحظة الزهو بسلطة الحاضر، يبدي الحاجة كالطفل لأمّه حيال التاريخ، إنّ الماضي بالنسبة إليه هو الأهمّ، وحتى المستقبل لا يملك أن ينظر إليه إلاّ كماضي متجدد.
تحيط بنا الأساطير من كل حدب وصوب، لأنّ التاريخ عاجز عن تغطية الحياة بقدر ما يستطيع الخيال فعل ذلك. لا شيء يستغني عن الخيال بما في ذلك التّاريخ، بما في ذلك أيضا التاريخ النقدي والآنالي، إنّ التاريخ هو التفاف على الأسطورة ليس إلاّ.
غالبا ما تسعى الأمم التي ليس لها تاريخ إلى إعادة توليده من رحم الأسطورة، هذه الأخيرة تتجاوز الوثيقة، لا بل يمنحها الخيال قدرة فائقة على إنتاج الوثيقة ولو بأثر رجعي، بقدر حاجة البشر للأسطورة بقدر تنكّرهم لها، حتى حينما يعيشون على لحن الأساطير، يتنكرون للخيال، أو لنقل يمارسون الخيال تقيّة، ولا يتحدثون إلاّ بالتّاريخ.
التّصالح مع الأسطورة مهمّة تاريخية لم تنجز، لأنّه ومادامت الأساطير حاجة تاريخية، فلم لا يصار إلى خلق توافق معلن بينهما، حتى ندرك حدود كلّ منهما؟ لماذا يمارس المؤرخ والمستترخين الأسطورة بالتّهريب أو في أفضل الحالات وفق الزواج العرفي؟
تلك أساطير الأولين، فما هي أساطيرنا؟ أمّا أوجيست كونت، فقد حدّد تاريخ الفكر، وكأنّ الأسطورة مرحلة خلت منها الحقب الأخرى؛ كيف انطلت علينا هذه الرؤية الأسطورية التصنيفية؟ اليوم تحتل الأسطورة مساحات كبرى من العلم نفسه، هذا إن لم يكن العلم نفسه بات يخدم الخيال وليس العكس.
تصبح الأسطورة مشكلة حينما يتقلّص الخيال ويفقد خصوبته، حين يعجز الإنسان أن ينتج أساطير تتجاوز عصر الانسداد، تلك أساطير الأوّلين، لكن هل أمكن المعاصرون أن ينتجوا أساطيرهم مقنعة؟ هذا لا شكّ فيه البتة، فأساطيرنا أوفر حظّا من أساطير الأوّلين، بل إنّنا نؤمن بها كإيمان القدامى بأساطيرهم، من يا ترى حتى اليوم يستطيع أن يرمق الميتوس في قلب اللوغوس؟
إيمان القدامى كان مفتوحا على الخيال، وبالتالي على الأساطير، ولأنّ مجال الإيمان هو مجال معني بالمطلق، فهو مجال حيوي للأسطورة، ذهب أركون هذا المذهب، تحدث عن الأسطورة في النص الديني، حصل سوء تفاهم، هو يقصد المِخيال، وربما لأنّ الناس لا يعرفون أن أركون نفسه لم يفعل سوى تنزيل ما فكّر فيها آخرون؛ أنظر بول تيليش مثلا، وهو يعتبر حتمية وجود الأسطوري في كل فعل إيماني، ذلك لأنّ القضية ترتبط بالمطلق والخيال.
يجب أن نتصالح مع الخيال ولا نقصيه لا من العلم ولا من الإيمان، وجب الحذر فقط من الأساطير المستنفذة، تهذيب الأساطير غير المقنعة، أساطير الأوّلين، بينما في الخيال المقنع مصلحة سلوكية وائتمانية براغماتية على منحى وليام جيمس، فلكل عصر حقيقته المزيجة، فالأسطورة حينما تصدر من الخيال ولا تسبق المعرفة بل تؤسس عليها قاعدة انطلاق، يصبح الخيال خادما للعلم والإيمان وليس العكس. مشكلة الإيمان لا تتعلق بموقف من العقل فحسب، بل بالموقف من الخيال؛ إنّ غياب الخيال يربك التجارب العلمية حتى داخل المختبر، لا بل إنّ العلم المجرد من الخيال يفقد العلم الشجاعة الكافية للاكتشاف والابتكار.
في الممارسة الإيمانية، فإنّ التّطرّفات نفسها وليدة تراجع الخيال، إنّ المتطرفين يعانون من فقر في الخيال، حتى في تصور مشاهد اليوم الآخر، يتجلى هذا الفقر وضعف الخصوبة في الخيال؛ إنّ الإنسان لهذا وذاك، كان أحرى أن يْعَرَّف بالكائن القادر على التخيّل الأقصى، ولعل الإنسان وحده يستطيع أن يمنح للعدم وجودا ذهنيا.
لا يستطيع الإنسان تجاوز التاريخ، بل في كل محاولة لصناعته هو يستحضره كفعل استذكار، سلطة المؤرخ وأدواته في التأويل حاضرة، إنّ الماضي نفسه يصبح وجهة نظر حاضرة، ومع ذلك فإنّ الوعي الحاضر لا يمكن أن يقدم نفسه كحاضر محض، بل يمتدّ لتأويل الماضي واختزاله، سلطة الحاضر على الماضي؛ من هذا المنطلق نادينا بحدس التاريخ، وإشهاد الحاضر على الماضي من خلال ضبط الممثالة، القضية تتطلب إذعانا للتحليل النفسي التاريخي، تتطلب أيضا إعادة إنتاج الكل من خلال الجزء، التاريخ الشمولي من خلال التاريخ الأُفرودي. حدس التاريخ يعني منح الشعور دورا كبيرا في مقاربة الحدث. اليوم نتحدث عن الرواية أو السيرة التاريخية، سفر مهمّ في نفسانية الحدث، علينا أن نعيد التاريخ أيضا للطبيعة، لكن المشكلة هنا في أنّ السيرة تبني على التاريخ، لا تؤوّله بل تبرره نفسيا، بينما المطلوب أن تصبح الرواية السيرية والتاريخية أداة للكشف عن المجهول، والمنسي، والمهمّش، الرواية كمدخل لنقد التاريخ لا لتبريره.
لا فرق بين استشراف المستقبل والتأريخ للماضي، في الصناعتين معا نستجدي الخيال بطريقة خجولة، نلتفّ على أساطير الأولين ونتجاهل أساطيرنا، لكننا هنا نؤكد مرارا على أنّ هذه المعضلة التي تعكس اضطراب الإنسان في الزمان، هي في الحقيقة حالة وجودية تجعل التاريخ ومعضلته جزء من شيء يستبعده التاريخ ويتجاهله أو يجهله المؤرخ؛ فيصبح التاريخ والمؤرخ ومن يتلقّى الإِخبار كلهم جزء من معضلة أنطولوجية.
التاريخ إذن جزء من معضلة أنطولوجية، وهو ما يجعل وظيفة المؤرخ لا يمكنها أن تتقوّم خارج القول الفلسفي للوجود. المؤرخ ما لم يكفّ عن اعتبار التاريخ حرفة تدور مدار الشواهد المادية المجردة كالوثيقة والأحفور، فإنّه لن يأتي سوى بتاريخ محاط بثقوب، سيحتلها القلق. إنّنا نعيش المشكلة التاريخية دون أن نتذكّر بأنّ تدوين الماضي ليس صناعة حرفية بل هو مغامرة وجودية مصحوبة بقلق أنطولوجي يحيط بكل النشاط الذهني للإنسان وسائر مستويات الإدراك والمعرفة، ذلك لأنّ الوجود غامر، والمعرفة هي عين الوجود، فبقدر القلق الوجود يأتي القلق التّاريخي.
أمارس ككل مهتمّ بماضي الإنسان فردا أو جماعة، هذه الحرفة التي تعنى بالوثائق والشواهد ومن ثم الاستنتاج. وأدرك كم أنّ الاستنتاج في هذه الصناعة يختلف عن الاستنتاج في مجال العلوم الرياضية والطبيعية، لأنّ التاريخ يعنى بالحدث الماضي، والحدث في الماضي هو ليس حدثا مفصولا عن تاريخه هو أيضا؛ باتت مهنة المؤرخ تستدعي أيضا تاريخا للحدث وتأريخا لتاريخه، وسيتسلسل الأمر إلى البدايات التي لا تاريخ لها، كما أن الحدث الماضي ليس مجزئا بل هو موصول ببنية، وهذه البنية يصعب التأريخ لها، ليس فقط نظرا لتشعبها، بل لأنّ الجزء الأهم في فعلها هو لاشعوري وغير معلن؛ هنا تصبح الحاجة ملحّة للتحليل النفسي، وللتأويل الأنثربولوجي؛ فما ينطوي عليه الجزء الصامت، والشفهي، والإيمائي من هذا التاريخ يفوق ما يجود به المكتوب. إنّ التاريخ ليس حرفة كسائر الحرف، بل هو أمّ العلوم إن هو أدرك ما له وما عليه.
يقرر إيف لاكوست بأنّ الجغرافيا تصلح لإحداث الحروب، وها نحن بتنا أمام ما يقربنا إلى ما هو أخطر من الجغرافيا، بل إلى التاريخ نفسه، فهو في نظري يصلح لإحداث الحروب. الجغرافيا تصلح للحرب، لكن كل هذا لا يتحقق من دون تاريخ جغرافي أيضا، وسنحار بين أن نسند تاريخ الجغرافيا كفرع للتاريخ أم للجغرافيا؟ لكن اليقيني هنا، هو أنّ التاريخ والجغرافيا هما معا ووحدهما يقرران مصير الأمم.
حتى التحليل النفسي للأفراد والجماعات والأمم، لن يكون في غنى عن الجغرافيا والتاريخ الجغرافي، إنّه علم معني بالذّاكرة، والذاكرة هي تاريخ الجماعة في المكان، حتى تاريخ الذهنيات لن يكون سوى تاريخ الأساطير المؤسسة للهويات، لأنّ للكائن أكثر من هوية، آخرها الهوية الجماعية.
إنّ وعينا التاريخي يؤثّر في حاضرنا ويرسم آفاقا لمستقبلنا، وشكل هذا الوعي هو من يحدد هوية الكائن، فكلما تدهور هذا الوعي، فلن تنفع معه الأساطير، حين لا تكون مفتاحا للشجاعة من أجل الاكتشاف وقوة الافتراض، وسنكون دائما مرضى بالتاريخ لأننا عاجزون عن أن نكون تاريخيين، نملك أدوات الفعل التاريخي.
لعل نيتشه كان واضحا وصادقا أيضا، حين ردّ على أولئك الذين تحدثوا عن عمر غوته الثمانيني وبأنه فقد حيويته، يقول بأنّ عددا قليلا من الأحياء جديرون بالحياة إذا ما قورنوا بأولئك الأموات. إنّه ادعى أنه بهذا المعنى سيحمي نفسه من تعاليم عصره كما يقدمها مرتزقة اللحظة. وجب قراءة التاريخ حسب نيتشه كما قرأه غوتة، على لسان التاريخ نفسه: “كن رجلا ولا تتبعني”.
كما يذهب نيتشه، لعله من حسن الحظ أنّ هذا التاريخ احتفظ بنضالات العظماء، وهذا مؤكد، إنه ضربة حظّ، لكن تاريخ العظماء إمّا أن يكون ملهما أو قد نصبح نحن الحاضرين وبالا عليه. كم يسلب منّا التاريخ هذا الوهج الكامن في حاضرنا، والذين يدعونا للتحرر من وطأة التّاريخ، لأنّنا معنيون كأولئك العظماء الذين احتفل بهم التاريخ مرغما أو على حين غفلة منه، بأنّ نكون تاريخيين؛ إنّنا في هذا الاستيلاب التّورخي نؤكد على أننا فقدنا صفة الكائنات التّاريخية، إنّنا نبصّ في تاريخ من مضى وفي تاريخ لم يحصل بعد، ولكننا في تاريخنا غير معنيين بتاريخنا، فالصناعة التاريخية تؤكد من نكون، ومن أين أتينا، لكنها لا تقول: أين نحن الآن، وما العمل؟
متى نستطيع أن نكتب تاريخ أنطولوجيتنا، تاريخ قلقنا المنحدر من هذا الاضطراب القديم من الاشتباك مع سؤال الوجود؟ متى تُعلن المصالحة بين التاريخ والفلسفة، بين الوثيقة والمفهوم، بين حقيقة التاريخ وتاريخ الحقيقة؟ التّاريخ هو أيضا صناعة، وعلاج، وأيضا مرض وانكسار، ما الضامن في هذه الصناعة حتى لا تصبح صناعة موت الإنسان؟ بقدر ما نستحضر الماضي بقدر ما نقتل الحاضر، ألم يكن من الأجدر أن نكون كائنات مزودة بأقدام تتيح لها المشي القهقرى؟
لا زال التاريخ يحتفظ بزهوه، والمؤرخ أيضا، يعتبرون المشكلة تقنية محض، أدوات التحليل والتحقيق، مناهج البحث، لكنه حتى اليوم لم يطرح المؤرخ عن نفسه سؤالا أنطولوجيا يتعلّق بمصير البشر في التّاريخ، وهل التّاريخ كما يمارسه اليوم المؤرخ، قادر على ملأ هذا الفراغ؟ ألسنا كجماعات وأمم ودول نمشي على حقل ألغام، وما التاريخ إلاّ محاولة للبحث عن خريطة ألغام لم يظفر بها بعد؟

ادريس هاني: كاتب وباحث من المغرب