الخميس - 28 مارس 2024

عالم بلا معالم..إطلالة على محاولة الكاتب د. حسن أوريد

منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


ادريس هاني ||

يضيف كتاب عالم بلا معالم للكاتب المغربي د. حسن أوريد، وأستاذ العلوم السياسية، ومؤرّخ المملكة السابق، إلى المكتبة العربية مقاربة جامعة لمحصول مآزم العالم والمنطقة، وطرق الأبواب لأمل منشود لكنه مطوي في قلب التّساؤلات التي تبدو قلقة، لعالم ينشده مفتوحا لا انسداد فيه.
أتصفّح الكتاب وأستنتج أنّ الأفكار هنا واضحة ، لأنّها تتوسّل السهل الممتنع في البيان والإعراب المضني لما تعقّد وتلبّد في مكامن المعنى، كأنّ د. حسن الكاتب بصدد رواية سيرية عن عالم بات في نظره كالفاقد للبوصلة. أمّا فوق هذا وذاك، فالجنس الذي يمكن أن نصنّف فيه هذه المحاولة هو تركيبي وعبر-مناهجي، لا يستعجل الفكرة ولا التعبير عنها، بمنحها حقها من البيان؛ هو كتاب لا ينسى نصيبه من البيان والتبيين، والمضمون ينتمي إلى كل حقول علوم الإنسان والمجتمع.
التاريخ كما يتصوره الكاتب هو جُماع الحوادث وسدى الأفكار، تلك وحدها التي تمنح الأحداث معنى تاريخيا وإلاّ كانت أحدثا عامة، وفي ذلك تندرج كل المصاديق التي واجهتنا كأحداث، ما كان لها أن تكون تاريخية من دون سدى الأفكار، من دون خلفيات وسياقات سابقة: حادثة حرق البوعزيزي، فهي حادثة موصولة بأفكار مناهضة للاستبداد، كذلك جائحة كورونا التي جاءت في سياق إنساني مسكون بقلق الوجود، والحال نفسه بالنسبة لسقوط سور برلين الذي ما كان ليكون له معنى في التاريخ لولا تراكم الأحداث واتجاهات الفكر. وهنا يكمن الخطر حينما يتجه التأريخ نحو أحداث تؤشر إلى حقب دون الوقوف على “سدى الأفكار”، الفصل هنا تعسّفي.
يسافر الكاتب في سدى تلك الأفكار، حيث يلتئم جرح الأحداث ووصلها بسياقاتها وبالفكرة الموجهة. كيف يمكننا أن نربط بين الأحداث نفسها إذا لم نستعد الصلة بالفكرة الموجهة للحدث نفسه؟! مدار الكتاب كما يشير الكاتب هو الجواب عن سؤال أساسي: إن كنا فعلا أدركنا بأنّ القديم في طور الاندثار، فإننا ندرك أيضا بأن الجديد لم تتحدد معالمه بعد. وهنا يصبح فهم القديم سببا موضوعيا من شأنه أن يضعنا على طريق الجديد.
الحلم الثابت للإنسان الغربي الحديث، وهو سؤال مشروع بعد أن غدت ثقافته عالمية، هو مزدوج برسم الحلم البروميثيوسي، لأنّه يسعى للسيطرة على اتجاهين: الطبيعة والتاريخ أو بالأخرى على سنن الطبيعة وسنن التاريخ. تبدو القصة من أولى مداميك فلسفة التاريخ حتى إلى نهايته، مع فوكوياميا بتوسط كوجيف.
الطبيعة لم تستسلم، بل بتنا أمام ثأر الطبيعة، وغدا الإنسان تحت وطأة هذا الثّأر أمام مصير، هو الأخطر من نوعه، وقد جاءت جائحة كورونا لتذكّر الإنسانية ” بضرورة عقد اجتماعي متعدد الأبعاد، ما بين الإنسان والطبيعة، ما بين الإنسان والعلم، وما بين الإنسان والاقتصاد، وما بين الإنسان والإنسان”.
والأمر سيان حين نتأمّل حلم الإنسان بالظفر بنهاية التاريخ، وهي السردية الغالبة التي أعقبت حادثة سقوط برلين حسب الكاتب. لكن ما وجب التوقف عنده، هو حقيقة أننا في عالم متغير، وأمام هذه الاختلالات والديناميات، بتنا أمام تحوّل باراديغمي، تغيرات ستمس القواعد الناظمة للعالم. نحن أمام سيرورة نحو الهلاك حسب نيو ديل أو غور الحضارات(la naufrage des civilisations) حسب أمين معلوف كما يؤكد الكاتب.
سيظهر هذا التصدّع على المسرح الدولي، أولى تجلياته في تطور الفاعلين الدوليين منذ سقوط سور برلين، الآحادية القطبية، فقدان الولايات المتحدة الأمريكية لرسالتها الميسيانية لا سيما مع ترامب، تنامي دور الصين، عودة روسيا إلى المسرح الدولي، تصدع الاتحاد الأوربي. يقابل ذلك بروز فاعلين جدد في الشرق الأوسط، أهمهم تركيا وإيران، يظل الشرق الأوسط رغم كل التحولات حاضرا في اللاّوعي التاريخي للغرب. سيتناول الكاتب بعد ذلك قضية أخرى أو لنقل نموذجا آخر يتعلق بنزاع عميق بين شكلين من الديمقراطية اليوم: ديمقراطية على أسس ليبرالية غير ديمقراطية تخضع لتحكم الأوليغارشيات وضعف المؤسسات التمثيلية، وديمقراطية هي الأخرى تحت تحكم ليبرالية غير ديمقراطية شعبوية. هذا من شأنه أن يؤدي إلى اهتزاز الديمقراطية نفسها، مما قد ينجم عنه بروز أشكال جديد من الفاشية، حيث يستشهد الكاتب بعبارة لمادلين أولبرايت التي تقول على لسان بريمو ليفي بأن لكل عصر شكله الجديد من الفاشية. لقد انتقل النقاش إذن من الديمقراطية كمطلب في تدبير العلاقة بين الحاكم والمحكوم لصالح نقاش يتجه نحو مصير الهوية الغربية. في هذا السياق يتطرق الكاتب إلى تحدي الديكتاتورية الرقمية، حيث باتت الثورة الرقمية في صالح التحكم بدل ن كان المأمول منها كسر احتكار المعلومة. ينضاف إلى ذلك تحدي الهجرة وآثارها على مستقبل الثقافة والمجتمع والهوية الغربية.
لقد تناول الكاتب من خلال عملية سردية وتحليلية ووصفية أيضا كل مظاهر التحلل والهشاشة والانهيارات التي يشهدها العالم، فيما تظهره الأحداث وسدى الأفكار أيضا، يعيدنا إلى كتاب سابق له حول مرآت الغرب المنكسرة، الكاتب المتمرس في سردية التقابل بين الأنا والغير التاريخيين وما يتركه الفصل والوصل من جروح وكدمات صدام الحضارات، متمرس في سرديا العلاقة التاريخية بين العدوتين الشمالية والجنوبية، كما في ربيع قرطبة أو عودة الموريسكي؛ الولع بالتّأريخ والمغامرة في اقتحام فلسفته، كل هذا مهمّ كمحلل لوضعية العالم اليوم؛ تحليل المثقف الجامع لشرائط التفكير في الحدث من زواياه المختلفة، من هسيس مؤامراته وتدابر أفكاره واصطراع أهوائه، أو لنقل سدى أفكاره.
هو أيضا محاولة حتجاجية صاخبة أحيانا ، وخفيضة أحيانا أخرى، بحسب ما يسمح به توتّر المعاني. فالسّفر في تحليل الحدث ليس نزهة عابرة بل هو اختمار لتجربة طويلة، فالكاتب هو مثقف يستهويه التاريخ السياسي والثقافي، لا يقف عند زاوية أو باراديغم معينين، والأهم أنّه يملك مرونة تعرّفية وتعارفية، ويدرك قيمة المعرفة وهمية الكدح في طريق اصطيادها، وهو مع ذلك يصدر عن خبرة إطار مرّ من تجارب في التدبير والمسؤولية، على قدر من الاطلاع يسمح بتدبّر حوادث العالم وسد أفكاره.
تبدو لي الفكر العامة واتجاه الرأي مهمّ، ومغري أيضا بالنسبة لمن يدركون المصير المجهول لعالم في حالة تحوّل دائم، هكذا حتى لا يتيه المراقب لأحداثه في أحداثه، ويتجاهل المحفّزات والغايات التي يتجه نحوها العالم، غايات غير محددة ولكنها في عمق هذا الجدل، تحتفظ بصورة ذلك المصير الذي لا يظهر بقوة مكر التاريخ.
ومع ذلك أرى أنّه بالفعل هو عالم بلا معالم، وهذا قدره الجميل أيضا، لأنّه في طور المراهقة؛ إنه البحث عن الهوية، شحد الملكات، تجريب كل شيء…شخصيا لا يقلقني هذا الشرود في هذه الحقبة الانتقالية، وهي مرحلة تكسير معالم الطريق، تقويض أدوات الحسم في التفكير والسياسات، البحث عن الأفضل، حيث التاريخ لا زال في غواية فكر وسياسة المفضول؛ هنا تصبح المعالم قمعا للإنسانية في سنّ المراهقة المفعم بالأحاسيس والقابل للانهيار والانكسار. لم يستقرّ البنذول بعد، لم يتواسط، لم يستوعب مجال التردد من أقصاه إلى أقصاه، لم تكتمل التجربة؛ دعه يرى، دعه يمرّ، لا بدّ أن تيأس البشرية من كل الخيارات المجرّبة، لتدرك الراجح من المرجوح
، وتبني لها بديلها المركّب.
كتاب الكاتب والصديق د. حسن أوريد قراءة مميزة، ومهمّة، لأنها ترقى للتحليل الجيوسياسي، وامتلاك أدوات تحليل الخطاب والأحداث تارة بحسّ الأديب المأخوذ في جمالية السرد والتصوير الفنّي، وتارة بملكة المؤرّخ المأخوذ بملكة التحقيق، مقاربة تبدو لي جامعة بين التاريخي والفيلولوجي والجيوسياسي، ولئن كان ثمة سدى أفكار في الأحداث الموصوفة والمحلّلة، فإنّ خلف الكتاب سدى أفكار وأيضا رغبة متربّصة بإعراب الغريب وبيان المجمل، والخروج من حالة القلق الوجودي إلى شكل من الإمتاع والمؤانسة التي يتحقق بها تعويض الانسداد بمنفتح في البيان والتبيين.

ادريس هاني: كاتب وباحث من المغرب
19/10/2021