الجمعة - 29 مارس 2024

حسن حنفي أو الأيديولوجيا كفلسفة(2)

منذ سنتين
الجمعة - 29 مارس 2024


ادريس هاني ||

يحضر الواقع في خطاب حسن حنفي، حضورا قارعا لا مخاتلة فيه، ويشكّل محور أيديولوجيته، التي تستند إلى حكومة الواقع على الأفكار، ليس حكومة الأمر الواقع، ولكنها حكومة ما يجب أن يكون عليه الواقع، مما يجعلها جديرة بأن تحمل إسم الواقعية المثالية. إنّ نضال حنفي الفكري اقتضى عملية انتقال داخل نسق التمركزات، بصيغة ” من.. إلى”، من النّص إلى الواقع، من الفناء إلى البقاء، من العقيدة إلى الثورة. سيكون من الخطأ المنهجي محاكمة حسن حنفي بأصول التفكير التي تنطلق من أصول إبستيمولوجيةقارّة، سيفاجأ الباحث بكمية النقائض، والتجاوزات، لكن حنفي قاصد لذلك، يريد تحرير العقل من الأصول، ليغير المنطلقات ويزحزح الأسس؛ الغواية التي تنتاب من يهمّه التغيير بوسائل التفكير البراغماتي. لكن أي معنى للبراغماتي هنا؟ لقد حملت هذه العبارة مضمونا سيّئا للغاية عند الترجمة والتداول، حتى باتت نوعا من الانتهازية، لكن البراغماتية جاءت لتحلّ معضلة المجتمعات والأمم، الإعتقاد بما يؤمنه من مصلحة، بهذا المعنى قلنا بأنّ حسن حنفي هو أكثر براغماتية وتداولية من طه عبد الرحمن، فهو لا ينطلق من أصول بل من الواقع نفسه، هو يغلب الواقع ويجعله معيارا حاكما وقوة تفسيرية وتأويلية للفكر، حتى وإن اقتضى الأمر تحوير الفكر لخدمة الواقع؛ فالواقع أوّلا. إنّ الحاكم في التنزيل البراغماتي للفكر والمعتقد هو المصلحة الاجتماعية، هو السيكولوجيا الجماعية، وليس المحاكمة الإبستيمولوجية.
نقد حسن حنفي لا جدوى منه إن كان مقاربة إبستيملوجية أو إن كان محاولة للوقوف عند النّقائض، لأنّك لن تجد قاعدة صلبة أصولية ينطلق منها حنفي سوى الواقع، وعلى الناقد أن يقف عند فهم الواقع وإمكاناته واحتمالاته. إنّه ينطلق من الفسلفة السائلة والواقع الصلب. وتستطيع الأيديولوجيا أن تؤمّن تلك السيولة لخدمة الواقع.
لقد قدم حسن حنفي عناوين عريضة لمشروع فكري يهدف تحرير الواقع من الفكر نفسه، فمعركته الأيديولوجية هي انتصار للواقع وتحرير له من معضلة الأصول، لكنه في الوقت نفسه ليس عدميا، بل راهن على تجديد الأصول وإقرار تبعيتها للواقع. لا تستطيع الاختلاف مع حنفي في الكبرى، بل تكمن المعضلة في التفاصيل حينما نقع في خطأ المقاربة الإبستيمولوجية، وهي حقّ، ولكن الواقع في نظر حنفي يبدو أحقّ منها.
الواقع حقّ، ومن هنا أنطلق، أحاول أن أفهم حسن حنفي في ذروة تمرده على الأصول، والأفكار، ما الذي جعل حنفي أكثر ميلا لهذه الأنارشية في تفكيك الفكر؟ هل هي نزعة لتعددية المناهج؟ لا يشبه حنفي أركون، لأنّه غير آبه للمناهج خفافا أو ثقالا، بل همّه هو الواقع.
أحار حينما أقرأ حنفي إبستيمولوجيا، لكنني أستطيع أن أقرأ في هذا التمرد صورة الواقع العربي، وتناقضاته. وحسن حنفي ينصب أمامك مرآة ناصعة لمعرفة الواقع العربي: واقع التبعية، والانحطاط، والعنف، واللاتسامح، والتّخلف السياسي والاقتصادي. يمكننا فهم حنفي إن نحن دخلنا من مداخل أخرى، وانطلقنا من البعد المرآوي لفكره. إنّه في حالة نضال ضدّ الضّحالة، لا يمكن أن يظهر فكر هذا في بيئة مستقرة ومتقدّمة، إنه بالأحرى مشروع أيديولوجي احتجاجي، يشكل لحظة أساسية ليس في تاريخ الأفكار العربية فحسب، بل يساهم أيضا في الاستنتاج وفهم بنية ثقافية واجتماعية عربية في حالة انهيار وهشاشة.
في التراث والتجديد وضع حنفي معالم مشروعه، تقويض سائر السلط التي ترهن العقل للتراث، وترهن الواقع لأصول مسبقة، وكما قلت، فإنّ ما يخفف من غلواء المفارقات الإبستيمولوجية هو المقاربة المرآوية لمشروع حنفي، ولا أريد أن أعود لشرح تفاصيل هذا المشروع، في نظرته للتراث أو الحداثة، فلقد فعلت من قبل، في (العرب والغرب)، في (خرائط أيديولوجيا ممزقة)، في (الإسلام والحداثة) وأعمال أخرى، ولكن فكرة الواقع هنا تبدو حيوية، وكما سبق ذكره ، فإنّ فكرة التداني وجب قراءتها في التعالي بالواقع، وحين يبدو الواقع غير قابل أن يتحرّك، فعلى المتعالي أن يتدانى ليعانق الواقع. تلك أشبه بغواية حنفية لتحقيق المثال في الواقع لا خارجه، وهي غاية التغيير. حين أهديته كتابي”ما بعد الرشدية”، كنت أدرك أنّني أمارس الاختلاف المباشر مع أطروحة التداني، وهي تقع في سوء الفهم الكبير أو لنقل تدوير زوايا الفكر لتناسب الواقع. كنت أدرك أنّ حنفي يبحث عن الحركة، والتغيير، لكنه وقف عند عقلانية بن رشد العقلية، أي عند الأرسطية في تمركزها العقلي وثبات الجوهر، فماذا لو أدرك تلازم العقل بالمعقول لصالح تلازم المعرفة والوجود، لصالح الحركة الجوهرية، وقوسي الصعود والنزول؟ فما بعد الرشدية ستكون في نظره خروجا من فكرة اليسار الإسلامي، لأنّ بن رشد يحتل موقع ذلك اليسار، لأنه أعاد إنتاج فكرة البرهان على طريقة المشّاء، كما أنّ الحكمة المتعالية ستكون استفزازا لواقعيانية حنفي، ولذا سرعان ما قال لي بأنه سبق وعالج الحكمة المتعالية، وأعاد الحديث عن فكرة التداني، وكنت قد اطلعت على ذلك، لأنّه كتبها بمناسبة حضور مؤتمر عن صدر المتألهين بإيران ذات عام؛ كنت أحاول أن أوضّح بأنّ الحكمة المتعالية هي نهوض بالواقع وليس تحليقا منفصلا؛ إنّ مآل الأسفار وغايتها يتحقق في قوس النزول، وبأنّ التداني هنا هو عود حميد إلى الواقع بشروط المثال قصد تغييره. وهذا هو جوهر فكرة شريعتي في النباهة والاستحمار التي كانت من الأفكار الملهمة لحنفي أيضا، وفي الفصل بين الفيلسوف والنبيّ، فهذا الأخير موصول بالواقع والتغيير بخلاف الفيلسوف؛ الحكمة المتعالية ليست حلاّجية معلّقة، أي أنّها تراهن على اختراق الفناء واستئناف الوعي على طريق قوس النزول، إنّ العُلوق في حيز الفناء مرفوض في منطق الأسفار الأربعة، والتي يعتبر معيار نجاحها هو تحقيق سفرة النزول إلى الواقع. ومن هنا، فإنّ فكرة الأسفار الأربعة، وأصالة الوجود، والربط بين المعرفة والوجود على قاعدة متجاوزة لمفهوم الإضافة السينوي، والإقرار بالحركة الجوهرية، هي مستوى من مستويات النزول والتنزّل والدنوّ لا التداني من الواقع. فالمعنى الذي يحمله حنفي عن الفلسفة كان منذ ماركس، هو تغيير العالم بدل تفسيره، فهي هنا في مقام الحكمة المتعالية، تحمل معنى التغيير، مذ عرفها ملاصدرا بأنّها نظم العالم عقليا كمقدمة لتغييره. إنّ التداني في مقام الحكمة المتعالية يصبح تحصيل حاصل، ما لم ننتبه إلى التباس المفهوم، حيث التداني قد يأتي بمعنى النزول، بما يعني أسباب النزول والنوازل ومنازل الحقيقة…يتبع

ادريس هاني: كاتب وباحث من المغرب
4/12/2021