الإنسان والمسيرة الإنسانية الحضارية /7/ نوع وشكل الإرتباط
حسن المياح ||
《 الجزء الرابع 》
قلنا في الحلقة السادسة السابقة أن الضياع الذي هو اللاإنتماء، وهو نوع من أنواع الإرتباط على شكل سلب وإنكار، مما يؤدي بالإنسان أن يكون صيرورة وجود تائهة متردمة متخبطة، تصرفها عشوائي منفلت لا قرار له ولا ثبات، ولا له إستقرار ولا رسوخ، وهو هيام في ضياع فنطازي حالم، مادته الخيال المجنح الطائر، وعنوانه التسول المشرد الهابط . وبذا يكون الإنسان الضائع هو لقمة صيد سهلة مفروغ منها مطموع فيها، وأنه ضحية سيب هينة يسير إصطيادها بالإستدراج، وأنه طعمة تافهة سهل قيادها للإلحاد والعمالة والخيانة والفساد والإجرام وما الى ذلك، وأنه — من حيث هو لقمة سائغة سائبة مساقة رخيصة — هين جذبها ويكون إنتماؤها إنتماء فساد وإنحراف وإجرام . وأن هذا الإنسان الضائع الفاسد المنحرف المجرم لا يصلح أن يكون عضوآ في المسيرة الإنسانية الحضارية، لأنه عقبة تعيق سلم التطور الحضاري، ومطب مؤثر يعارض ويقف عثرة مانعة بوجه السير المتقدم الصاعد مما هو فيه من عرقلات منع ونصب حواجز، ومما هو فيه من جمودات ركود حركة، وموانع تطور، وحواجز صعود..
ولنتناول نوعآ آخر من الإرتباط، وهذا النوع من الإرتباط هو إرتباط إيجابي، ينطوي على سلب بما هو من غلو وتصعيد بلا حقيقة قدرة ولا موضوع أو واقع إستحقاق، فهو الغلو والتسامح الذي يسبغ صفة لا حقيقة ولا إمكانية وجود لها في الموصوف ؛ وإنما هو تصور حالم عابث، لجعل المحدود مطلقآ، وإكسابه جدارة قيادة حركة المسيرة الحضارية المتقدمة الصاعدة المبدعة الخلاقة، بالوقت الذي يكون فيه هذا المحدود هو الإعاقة التي تكبح حركة سير التطور الإنساني الحضاري وقوفآ وتجميدآ، وإنسلاخ تقدم، وإبتعاد تطور، لأنه لا يملك الطاقة المحركة لإستمرارية حركة تقدم وصعود العجلة الحضارية المبدعة الخلاقة إكتشافات جديدة متقدمة، وخالقة نماء متطور مرتق صاعد . وكل ذلك بسبب محدودية المتخذ مطلقآ وإسباغ القيادة الشاملة لحركة التطور الحضاري المتقدم الصاعد له ( وفاقد الشيء لا يعطيه ولا يمنحه ولا يقدمه، لأنه فراغ هواء، صفاء خواء )، وهو في حقيقته أنه قاصر محدود، مقيد معدود . فإلاه المسيرة هذه المتخذ، هو إله نسبي جزئي محدود، لا يقوى على إستمرارية العطاء والتزويد لأنه محمدود ممكن، وأنه مقيد عاجز، لا طاقة فيه ولا هو يمتلكها لإدامة حركة سير موكب التطور الحضاري للإنسان الطويل المستمر الصاعد إرتقاء إبداع، والمتقدم نماء خلق ثراء . وهذا الإله النسبي القائد للمسيرة الحضارية الذي يتخذه الإنسان غلو إختيار، وإنطباق جهل، وإنفتاح تلقف مصلحة ذات، ببلادة تفكير وتخلف وعي وفقد بصيرة، ويسبغ عليه صفة الإطلاق إنتماءآ مزيفآ كاذبآ، لأن حقيقة وجوده وماهية مقامه هي القصور والمحدودية، والتقييد والإنطواء إجترارآ على ما هو محدودية طاقة وقابلية أمكان عطاء، حيث لا حركة صعود وإرتقاء، ولا تقدم تطور وإبداع ….، والإناء الفارغ من الماء لا يروي عطشانآ …، فكيف بمسيرة إنسانية حضارية، عظيمة شاقة، متقدمة صاعدة، مرتقية طويلة، مبدعة خلاقة، التي تحتاج الى الملايين والمليارات من خزانات الماء لإرواء عطشها النهم الجشع الذي لولاه، لا تنتج حركة حضارة متطورة صاعدة بلا إعداد وتهييء غناء ماء سلسل سبل متوافر على طول الطريق نقاط صعود، وآنات إرتقاء، وسير حركة مستمرة دائمة الصعود ؟!
صحيح أن هذا النوع من الإرتباط ( هو الإرتباط بالنسبي المحدود وتحويله الى مطلق شامل ) هو إنتماء، ولكن نوع إرتباطه نوع إرتباط حاجة، يشبعها بإعتبارها حالة إنتماء، وتشبعه لشوط قصير بإعتبارها قيادة عطاء ؛ لا إرتباط مطلق شامل يستوعب مراحل حركة السير الإنساني الحضاري بتمامه وكماله، لأن هذا النسبي المحدود المتخذ إلاهآ مطلقآ، هو — بقيد قصوره ومحدوديته — يصح لبعض قيادة تموين وإمداد سير حركة لبعض المراحل، ويتوقف بسبب محدودية الإمتلاك والعطاء، وبعدها يصيبه النضوب والخواء، ويكون فراغآ هواءآ، ويصبح هو العائق لمسيرة السير الحضاري المتطور، لأنه لا يقدم الوقود للإنسان ليواصل حركته، ويستمر في سير صعوده المتقدم إرتقاءآ، لبلوغ الهدف والغاية التي ينشدهما من خلال مسيرته الحضارية الذي هو فيها المجاهد العامل الكادح الصالح، الدائب حركة صعود متقدم متواصل في إرتقاء إبداعها الخلاق، تحقيقآ للوصول الى تمام كمالها …. وأن هذا الإله النسبي المتخذ مطلقآ قد شاخ وعجز، وإستفرغ وسعه وتجمد، وتحول الى توقف وركود ؛ لا الى إستمرارية عطاء وتواصل تموين طاقة محركة الذي عهد اليه أن يكون مصدر عطاء دائم، ومنح إغداق كامل سالم، وتزويد متلاحق هاطل لا ينضب ..وإلا فلماذا أتخذه إلاهآ مطلقآ يستند اليه مصدر غذاء وعطاء بشمول وإستيعاب، وإستمرار ودوام ؟!
وأما الحديث عن مفردات نماذج هذا الإلاه النسبي المحدود المتخذ إلاهآ مطلقآ شاملآ مستوعبآ زورآ وزيفآ، وجهلآ وتخلفآ، وكذبآ وخداعآ، وعنادآ وإصرارآ، وخبثآ وفسادآ، وحقدآ ولئامة، وما الى ذلك من نعوت مجرمة وضيعة هابطة سافلة، وصفات غاشة منحرفة متسولة غادرة..فموضعها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى..وهو الموفق المطلق، والمعين الشامل، قدرة مد وعطاء، وفيض ورجاء..