الأربعاء - 06 نوفمبر 2024
منذ 3 سنوات
الأربعاء - 06 نوفمبر 2024


ضحى الخالدي ||

لا يمكن إنكار الموقف الحرج للمحكمة الاتحادية في نظرها بالطعون المقدمة بشأن الانتخابات، فالضغوط الخارجية والداخلية غير خافية على أحد، ويبدو أن خيار التوافق على تسوية سياسية معينة سيكون هو الفيصل في النهاية، ورُبّ سائل يسأل هل معنى هذا تسييس القضاء؟ والجواب أن المصادقة على نتائج مشكوك بصحتها، وعملية انتخابية مطعون بشفافيتها، ومحاولة فرض الأمر الواقع هو التسييس بعينه.
بعد أن فقد الشعب ثقته بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، بقي العمود الأخير من أعمدة الثقة بالنظام السياسي القائم، وهو السلطة القضائية، والذي إذا ما هُدّ على رؤوس العراقيين؛ قرأنا السلام على مصير التجربة الديموقراطية الناشئة في البلد.
وفي إطار الحديث عن تشكيل الحكومة المقبلة، فمن نافل القول أن كتلة السيد مقتدى الصدر عاجزة دستورياً عن تشكيل حكومة أغلبية بمفردها؛ دون ائتلاف مع بقية الشيعة والسنّة والكرد، والخطورة لا تكمن فيمن يشكّل الحكومة، أو من يشكّل المعارضة؛ تكمن المشكلة في الالتزام بالكلمة، وبتحويل المزاعم الى وقائع؛ إن ائتلاف الكتلة الصدرية مع الإطار التنسيقي يؤدي الى تنازلات شيعية أقل تجاه الكتل السنّية والكردية التي ستنضمّ الى تشكيل أي حكومة كما انضمّت مِراراً سابقاً تحت مبدأ التوازن، وهذه الكتل ذاتها تأبى الائتلاف مع أي طرف شيعي دون حل الإشكالات مع الطرف الآخر، لأن هذين الطرفين الشيعيين إنْ لم يستقلّا ذات المركب، فسنكون أمام أحد احتمالين: الاحتمال الأول حكومة يشكّلها الإطار التنسيقي مع حلفائه، ويسقطها تيار السيد مقتدى الصدر خلال ستة أشهر من معارضة قراراتها وتعطيلها، بالتظاهرات واقتحام البرلمان، وستجد كتل المكونات الأخرى نفسها قد خسرت وزاراتها ومناصبها مع سقوط الحكومة الشيعية، أو حكومة تشكّلها الكتلة الصدرية مع حلفائها وتطارد قادة الإطار التنسيقي تحت كل حجر ومدر باسم القانون، وعلى رأسهم قادة فصائل المقاومة؛ إذ أن حلّ هذه الفصائل هو المطلب المُلِحّ للسيد الصدر كي يكسب به قبول وثقة المجتمع الدولي (الغربي والخليجي) الذي لا يزال ينظر إليه بعين الريبة بعد تأريخ طويل من التقلّب في القرارات والتوجهات، وذكريات مُرّة من الصراع مع جيش المهدي لا يمكن إنكارها، وهنا ستجد كتل المكونات الأخرى نفسها في مواجهة رد فعل الفصائل الصارم جداً تجاه الحكومة التي يشاركون فيها فيما هي تستهدف المقاومة، ومن البداهة أن نقول إن قوة الشيعة في وحدتهم، وأن الخلافات بين الإطار التنسيقي والسيد مقتدى الصدر هي أقل بكثير من اختلافات الصدر مع الكتل السنية والكردية، وما دام العراق دولة مكونات، وساسة كل فريق يطالبون بحصة مكونهم، فلا سبيل إلا التوافق، بوجود أغلبية شيعية، كما تقضي بذلك الضرورة الديموغرافية ونتائج الانتخابات، فرغم كل الانشقاقات لا زال الشيعة أغلبية؛ بما فيهم المستقلون، وأعتقد أن تماسك الشيعة في هذا الظرف الذي تعوّل فيه أميركا على فرقتهم، وتهمّ بتخفيف وجودها العسكري في منطقة غرب آسيا، وليس الانسحاب الكامل، هو فرصة لن تتكرر للخلاص من ربقة هذا الاحتلال المقيت، وتأثيراته السلبية على العملية السياسية، وإن الأوان قد آن كي يثبت من يدّعون التسيّد على محور المقاومة مواقفهم.
وعلى افتراض رضوخ المحكمة الاتحادية الى الضغوط ومصادقتها على النتائج على عِلّاتها، فهنالك أكثر من سبيل للتصدّي لهذا القرار، وتبقى مسألة تدويل القضية خاضعة للشد والجذب، لأن الحلفاء الكبار لا يقدّمون الهدايا مجاناً، وإذا كان هناك من قدّم فروض الطاعة والولاء للغرب والخليج من أجل الكرسي، فلا يمكن التعويل على انحناء الطرف الآخر لروسيا والصين أكثر من اللازم.
ويبقى ما دون مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات هو مقاضاة الجهات المتورطة بالتلاعب والتزوير ومحاسبتها على الإخفاق الملموس بوضوح إنْ لم يكن التواطؤ والتورط، وهو مسار قانوني بحت، وإن أقلّ تهمة توجه الى المفوضية في هذا المجال هي أن كيف يكون تقريراً للشركة الفاحصة الألمانية من المفترض أن يُعرَض على مجلس النواب المنحل قبل حلّه؛ كيف يُخفى ويكون سرياً؟!
هذه الانتخابات وملابساتها واحدة من متاعب أي ديموقراطية ناشئة في ظروف غير طبيعية البتّة من احتلال وإرهاب وحروب تحرير واحتجاجات مسيّسة على خلفية التخلص من عقود من الدكتاتورية الدموية التي جثمت كالكابوس على صدور العراقيين؛ لتأتي الديموقراطية التوافقية في بلد متعدد المكونات حلّاً مخدّراً ومهدّئاً للاحتقان بآثار جانبية غير خافية؛ تلك الديموقراطية التي شوهتها التدخلات الخارجية، وانعدام ثقافة الإيمان بالدولة لدى السياسيين والجمهور على حد سواء، وسلسلة الإخفاقات الطويلة التي يتحمل نتيجتها السياسيون والجمهور، والتي ولّدت اليأس حتى لدى النخب المثقفة صانعة القرار، فكيفما بالمواطن البسيط؟
وسواءً كانت الديموقراطية في العراق نتاج البروباغندا الغربية الليبرالية، أو حاجة ماسّة نابعة من صميم تطلعات العراقيين، فلايمكن العودة الى الدكتاتورية بأي حال من الأحوال لأن ذلك يعني عودة الشيعة الى قرون القهر والاستعباد التي لا يمكن مقارنة كل معاناة اليوم بها.
تبقى الحكومة القوية الفعّالة والمخلصة أملاً لدى الجميع، إلا أنه يتطلب وجود معارضة تقويمية قوية أشد إخلاصاً، وهذا ما لا يتوفر داخلياً، ولا تتوفر معطياته الخارجية.
هذه الانتخابات درس للجميع؛ درس لإعادة النظر في علاقة الكتل بالجماهير (بما في ذلك الكتل التي تعتبر نفسها فائزة رغم تضاؤل شعبيتها)، وعلاقة الكتل ببعضها، وعلاقة الكتل بالجهات الخارجية، وإمكانية الثقة طويلة الأمد بها، والى أي مدى يمكن التعويل عليها، خصوصاً ونحن مقبلون على استحقاق الانسحاب الأميركي نهاية العام الجاري ٢٠٢١.
درس مُرٌّ وصعب يعيد الى الأذهان كل الأوصاف الخطيرة والألفاظ المقذعة التي وصف بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس.) مؤسسات الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن، وسيرة سفرائها في العراق، وتقييم أدائهم بكل موضوعية في العراق وسوريا والبلقان والصومال… والقائمة تطول.
على الحل أن يكون عراقياً من الداخل، وعلى المكوّن الأكبر أن يحافظ على لُحمته لأنها ضمانة وحدة العراق، وعليه أن يكون المدافع بضراوة عن الشرعية الحقيقية، ممثلةً بأحكام الدستور ومعايير النزاهة والشفافية، وإن إطلاق تسمية أغلبية توافقية ممكن على توافق الأغلبية الشيعية مجتمعةً مع كتل المكونات الأخرى؛ أما الحديث اليوم في ظل كل التحديات التي تكتنف بلدنا ومنطقتنا عن تشكيل جبهتين شيعيتين كلٌّ مع حلفائها من الكتل الأخرى؛ واحدة محافظة (متشددة) وأخرى (إصلاحية) على غرار الجارة إيران، فهو مبكر في عمر ديموقراطيتنا وتحدياتها، وقد جرّبنا هذا التقسيم الطولي بين تحالفي البناء والإصلاح بعد انتخابات ٢٠١٨، ولم يفلح، ولم يستمر، وكان الأساس الذي تشّكل عليه الصراع المؤجل اليوم.
ــــــــ