رسالةٌ عربيةٌ فلسطينيةٌ في ظلالِ ليالي الميلادِ المجيدةِ
د. مصطفى يوسف اللداوي ||
يحتفل المسيحيون في العالم كله، في هذه الأيام المباركات من كلِ عامٍ بعيد الميلاد، وعيونهم ترنو إلى فلسطين المحتلة، الأرض المباركة التي ولد ونشأ فيها السيد المسيح عليه السلام.
فهي قبلة المسيحيين الأولى، حيث مدينة المهد بيت لحم، ومدينة المولد الناصرة، المدينتان اللتان احتضنتا السيد المسيح وأمه عليهما السلام طفلاً وكهلاً، وبينهما وحولهما رُسمت خطواته الخالدة، التي أسست للديانة المسيحية، وغرست جذورها في الأرض المقدسة، وجعلت منها أرضاً مباركة، تهوي إليها قلوب المسيحيين، وإليها يحجون ومنها يستمدون البركة.
يسأل المسيحون في هذه الأيام المباركة، الله في الأعالي المسرة بين الناس، وينشدونه على الأرض السلام، في رسالةٍ سرمديةٍ خالدة، أنهم أهل محبةٍ وسلام، وأتباع نبيٍ كريم سبق رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم بسنين، وبشر به بعلمٍ ويقين، فهنيئاً للمسيحيين ليلة ميلاد رسولهم، وجعلها الله ليلةً مباركةً، وأعادها عليهم سنيناً عديدة وأعواماً مديدة، مليئةً بالخير، وافرةً بالعطاء، عامرةً بالعدل والسلام.
ولكن أرض المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام مستباحةٌ محتلة، تغتصبها عصابةٌ مارقة، من أعداء المسيح القدامى، الذين حسدوه وخانوه، وتآمروا عليه وأرادوا قتله، وتهيأوا لصلبه، لولا عناية الله عز وجل به التي أنقذته من شرورهم، ورفعته مكاناً علياً، وأمهلته فترةً من الزمن لا نعلمها، ليعود بعدها إلى الأرض، هادياً ومبشراً ونذيراً، برسالة الإسلام المحمدية، وسنته الحنيفية، ينشر العدل، ويبسط السلام، ويحكم بين الناس بالسوية، ويحارب الظلم ويلاحق المسيخ الدجال حتى يدركه بباب لدٍ الفلسطينية ويقتله، منهياً بقتله عصور الظلم والفسق والضلال، وناشراً للعدل والحق والمساواة، ومؤذناً بقرب يوم القيامة.
أرض المسيح عليه السلام تستغيث العالم في يوم الميلاد من ظلم اليهود ومن بطش بني إسرائيل، الذين يعيثون في الأرض الفساد، ويقتلون البشر، ويقتلعون الشجر، ويدمرون الحجر، ويغتصبون الأرض من ملاكها، ويبنون فوقها مستوطناتٍ ومستعمراتٍ، حتى كادت مدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور تلتحم بمدينة القدس، لكثرة الأحزمة الاستيطانية التي طوقتها وألحقتها بما أسمته مدينة القدس الكبرى، وهي المدينة المقدسة التي تحتضن كنيسة القيامة، التي حفظها المسلمون وأكدوا على بقائها، بوثيقتهم العمرية الخالدة، كنيسةً للمسيحيين ومعبداً لهم، ومنعوا الاعتداء عليها، أو الإساءة إلى المصلين فيها، وهي الكنيسة التي دأب اليهود على تدنيسها وطرد المصلين منها، وهم اليوم يحاولون تشويهها وتجريدها من أوقافها، وحرمانها من أرضها، والتضييق على أتباعها.
إن ميلاد السيد المسيح عليه السلام هو إيذانٌ بميلاد السلام والمصالحة بين البشر جميعاً على أسسٍ من الحق والعدل، والفلسطينيون أجدادُ المسيح عيسى بن مريم، هم أكثر من يحتاج إلى رسالته وتعاليمه، فقد ملوا الفرقة، وعانوا من الانقسام، ودفعوا ضريبة فادحة من أرواحهم وممتلكاتهم ومصالحهم، وما زالت صفوفهم نتيجة الاختلاف متفرقة، وكلمتهم ممزقة، وقوتهم خائرة، ولا حول لهم ولا قوة، ينال منهم العدو وعليهم ينتصر، وقد ساهم الانقسام في ذهاب بريقهم، وتشويه صورة نضالهم، وانفضاض الناس من حولهم.
لعل الفلسطينيين في هذه الليالي المباركة، في أمس الحاجة إلى تعاليم المسيح عليه السلام، الزاخرة بالمحبة والتآلف، وبالاتفاق والمصالحة، وبالغفران والمسامحة، والداعية إلى وصل عُرى الأخوة، ومواثيق المحبة، فنحن أبناء شعبٍ واحد، ننتمي إلى أمةٍ واحدة، ونعاني جميعاً من عدوٍ واحد، لا يفرق بيننا ولا يفاضل فينا، فلنحب بعضنا، ولنغفر لأنفسنا، ولنتسامح ونتصافح، ولنغتسل من آثامنا، ولنتظهر من ذنوبنا، ولنعود إلى الله خالقنا.
رسالة عيد الميلاد العربية من أهلنا المسيحيين، شركائنا في الأرض والوطن، وإخواننا في الظلم والمعاناةِ، وأمثالنا في السقم والعدم، إلى العالم المسيحي الحر، أن انحازوا إلى الحق، وكونوا إلى جانب المبادئ والمثل التي نادى بها عيسى عليه السلام، ودعا للتمسك بها، فلا تناصروا الظالمين، ولا تمدوا في عمر الخائنين، وكونوا ربانيين أحباراً أتباعاً لرسولكم الكريم، الذي انتفض على الظلم، وقاتل الشر، ورفض الخضوع للغاصبين، وثار على الكاذبين المدلسين، وأقسم بالله أن يبيع قميصه ويشتري به سلاحاً يقاتل به المعتدين، ويرد به حق المظلومين، ولا يكون يوماً ظهيراً للظالمين، فأسس لثورات الجياع والمظلومين والمضهدين والمحرومين، ممن أحتلت أرضهم، وانتهكت مقدساتهم، وأغتصبت حرماتهم، وفرضت عليهم إراداتُ غيرهم وسياسات أعدائهم.
المسيح عيسى بن مريم في ليلة ميلاده المباركة يقول إن فلسطين أرضٌ واحدة، في وسطها ولدتُ، وفي شمالها شببتُ وترعرعتُ، وإليها أعود، وفيها أنشر العدل والسلام، فهي أرضٌ واحدة، ملكٌ لشعبها الفلسطيني، لا تقبل القسمة، ولا يجوز فيها التجزئة.
إنها الأرض التي سكنها الفلسطينيون قبل آلاف السنين، وعمروها بحضارتهم العربية والإسلامية، وعليها طرأ اليهود واحتلوها، وحاربوا مسيحييها قبل مسلميها، فلا ينبغي التفريط فيها أو التنازل عنها، وعلى أهلها الحفاظ عليها والتمسك بها، هويةً وانتماءاً وفكراً وحضارة، وإن مسيحيي قطاع غزة الذين يحرمون زيارة مهد رسولهم، ويعاقبون بالحرمان من المشاركة في إحياء ليلة الميلاد، فإنهم سيعودون إلى مدينة بيت لحم من جديد، وسيقفون على باب المغارة، وسيشعلون شموعاً على بابها، وسيدخلون كنيسة المهد، وسيصلون فيها رغماً عن يهود وبني صهيون.
إنه المسيح عيسى بن مريم كلمة الله وروحٌ منه، يخاطب أتباعه في كل مكان، أن كونوا أبراراً أنقياء، أطهاراً أصفياء، وكونوا معاً يداً واحدة في صناعة السعادة الأبدية التي أرادها الله لكم، وتخلصوا من الإثم والمعصية، وانشروا السلام الحقيقي، وأعيدوا للحق نصابه وللعدل مكانة.
فما الإنسان إلا خليفة الله في أرضه، وقد كلفه بعمرانها ومواصلة الحياة فيها، وأعلمه أن للإنسان كرامة وله حقوق، فلا ينبغي الاعتداء عليها أو تجريده منها، وهو من المسيحيين براء إن هم حادوا عن دربه، وساندوا الباطل وتخلوا عن الحق، وناصروا الظلم وخذلوا المظلومين، وانقلبوا على الشريعة وتنكبوا للرسالة.
السيد المسيح عليه السلام يوصي أتباعه فيقول “سلاماً أترك لكم، وسلاماً أعطيكم، لا كما يعطيه العالم أنا أعطيكم، لا تضطرب قلوبكم ولا تفزع”، وكأن لسان حاله يقول، لا سلام دون عدل، فالعدل أساس السلام وهو طريقه، فحتى يتحقق السلام، ويستعيد الفلسطينيون حقوقهم، ويطردوا عدوهم، ويحرروا أرضهم، فإن نشيد المسيحيين مع ملائكة السماء سيبقى، “المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وللناس المسرة”.
بيروت في 29/12/2021