صحة استمرار انعقاد الزواج بزوال حالة السكن والمودة
د. علي المؤمن ||
مقدمة:
أوضح ابتداءً بأن الرأي المطروح في المقال لايمثل قناعتي الشرعية العملية؛ لكنه مجرد رأي للنقاش، يستند الى استنطاق افتراضي للأية الكريمة ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً))؛ بهدف تحفيز البحث في مجال مقاربة المستحدثات التي تفرضها متطلبات الحاضر والمستقبل، وهو ما يعبر عنه الأصحاب بالبحث الحوزوي. وفضلاً عن أن هذا الرأي يستند الى الدليل القرآني كما أفترض؛ فإنه ينسجم مع مقاصد الشريعة أيضاً؛ كونه يساهم في استقرار الأسرة والمجتمع، وينصف المرأة ويؤدب الرجل، ويجبرهما على التفاهم؛ للحيلولة دون فقدانهما شروط استمرار انعقاد زواجهما، والمتمثلة بالسكن والمودة والرحمة، ما يؤدي في النتيجة الى وقوع الطلاق تلقائياً وانهيار الأسرة.
وأفترض أيضاً؛ إن التوصل الى قناعة شرعية من الفقهاء المجددين في هذا المجال؛ سيقلب الموقف الشرعي تجاه العلاقة بين الرجل والمرأة أحياناً، من شرعية الى غير شرعية، وبالعكس.
شروط الرضا والسكن والمودة في صحة العقد:
لا يعد عقد الزواج صحيحاً ابتداءً إلّا بالرضا القلبي لكلا الزوجين دون شائبة، وبالتعبير عن هذا الرضا بكل حرية ودون أدنى ضغط، وإلّا كان العقد باطلاً من الناحية الشرعية، أي أن إجراء صيغة العقد، باللفظ والتدوين الشرعي أو القانوني؛ إنما هدفه إقرار هذا الرضا وتوثيقه، وليس إنشاؤه، فالرضا وتوافر الشروط هو منشأ العقد، وهو معيار الحلِّيّة وقوام الرابطة الشرعية؛ بل أن الرضا ليس مجرد شرط كباقي الشروط الأخرى؛ إنما هو قمة هرم قواعد العقد، وهو يشبه الدستور بالنسبة الى النظام القانوني، أي أن صيغة العقد هي بذاتها إجراء شكلي، لا يحلل ولا يحرم، دون مقوِّمه الأساس (الرضا الحقيقي)، وإن توافرت جميع الشروط الأخرى.
والشروط الأخرى، ومنها التعليلية والجعلية، كالسكن والمودة والرحمة؛ هي لوازم الرضا المستدام، وبدونها تزول حالة الرضا تلقائياً ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً))، أي أن علة خلق الأزواج من أنفس بعضهم؛ تكمن في السكن المتبادل، ويعني ذلك الرضا المستدام، المتمثل في الطمأنينة وراحة البال والاستقرار النفسي والجسدي، وبلوغ الحاجات الطبيعية والفطرية، النفسية والمادية، وليس حالة الرضا والسكن والمودة والرحمة المؤقتة التي تتمظهر خلال إجراء صيغة العقد، أو بعده لفترة محدودة؛ لأن الآية عللت الزواج بالسكن المستدام، وقرنت السكن بالمودة والرحمة، أي الحب والعطف والتناغم الروحي المستمر، وليس المؤقت.
والمهم في هذا الموضوع أن علة السكن وجعل المودة ليس تكوينيين؛ بل تشريعيين، أي أنهما من اللوازم الشرعية لاستمرار صحة عقد الزواج. فإذا كان الرضا هو منشأ صحة العقد وحلِّية الاقتران؛ فإن السكن والمودة هما شرطا استمرار صحة العقد.
انفساخ العقد تلقائياً بانعدام شروطه:
هنا يطرح السؤال نفسه: هل تستمر صحة عقد الزواج فيما لو استجدت حالة البغضاء وزال السكن وانتهت المودة بين الزوجين فيما بعد؟، أو تلمّس أحدهما تعرضه للغبن والتدليس بعد حين؟.
وهنا نفترض أن كرامة الإنسان ومشاعره وتكوينه النفسي، أعظم – بما لا يقاس- بالسلع المادية بكل أنواعها، والتي حددت لها الشريعة قواعد للفسخ؛ فما بالك بالإنسان!!
وعليه؛ فإن في حالة زوال الرضا والسكن والرحمة بين الزوجين، بشكل مستمر؛ فإن قواعد صحة العقد وشروطه ربما تسقط تلقائياً أيضاً، حتى بدون إجراء إيقاع الطلاق، ويتبع ذلك حقوق الزوجية، وأهمها الفراش، فلربما تكون الممارسة الجنسية حينها غير شرعية ولوناً من الزنا أو الاغتصاب.
وتبعاً لذلك؛ سيسقط ما يسمى باحتفاظ الرجل بحق إيقاع الطلاق منفرداً وحق التمكين، الذي يمثل أحياناً تمريغاً لكرامة الإنسان في وحل الذل والعبودية. وأكرر بأن ما أقصده هنا وقوع حرمة استمرار العلاقة حتى قبل إيقاع صيغة الطلاق أو صيغة الخلع، أي أن الحرمة تقع عندما يحدث ما نسميه “الفسخ التلقائي للعقد”، بزوال شرط قوامه الأساس.
وبالطيع؛ لا نتحدث هنا عن فترات الغضب والكراهية العصبية المؤقتة وحالة الخصام والانعدام العابر للسكن والمودة والرحمة؛ بل عن الحالات التي تكون فيها البغضاء، وربما الكراهية، مستحكمة في نفسي الطرفين، ويصعب علاجها.
وانعدام تحقق هذه الشروط يشبه بطلان عقد الزواج فيما لو ثبت أن الشخص الذي وافق على زواج البنت الباكر لم يكن ولي أمرها، ثم ظهر ولي أمرها فيما بعد، وكذا لو تبين أن المرأة التي عقد قرانها ذات بعل، أو أن الزوج ليس مسلماً، وكذا بعض توصيفات التدليس والخداع الأساسية، والتي تقود الى بطلان العقد، دون الحاجة الى ايقاع الطلاق أو الخلع؛ فهذا الشرط من الشروط التي تتوقف عليها صحة عقد الزواج، وهي شروط ابتدائية، حالها حال الرضا.
ونفترض أن علة السكن وجعل المودة والرحمة فيما بعد الزواج تشابههما في القوة والتأثير.
وتبرز هنا قضية أخرى تتعلق بتوقيت حصول الرضا الحقيقي بين طرفي الزواج، وهو ما ينبغي أن يحصل قبل إجراء صيغة العقد؛ فهل يمكن أن تحصل حالة الرضا والشعور بالمودة، النسبية على أقل التقادير، بين شخصين لا يعرفان بعضهما ولم يلتقيا ويتفاهما ويتناغما، كما هي الزيجات العرفية التقليدية.
لا شك أن حالة الرضا لا يمكن أن تتحقق فجأة أو عبر لقاء عابر إطلاقاً. لذلك؛ من البديهي شرعاً أن يكون هناك تعارف، ولفترة مناسبة، بين الشخصين، قبل إجراء صيغة العقد؛ ليكون العقد توثيقاً حقيقياً لحالة الرضا والمودة، وهو ما يشبه عقود البيع وغيرها، إذ لا بد من دراسة شروط العقد وحصول الرضا الكامل بين أطرافه، دون غبن وتدليس، وإلا ستكون هناك خيارات كثيرة للفسخ.
وهذا ينطبق على الزواج المنقطع أيضاً؛ إذ لا يكفي تحقق الرضا الشكلي بين الطرفين وغيره من الشروط؛ بل لا بد من تحقق حالة السكن والمودة فيما بعد؛ فبدونها لا يحِل استمرار العقد، ويعد نوعاً من الزنا، فضلاً عن أن تحقق حالة السكن والمودة خلال دقائق تسبق إجراء صيغة العقد؛ أمر مستحيل، بل ربما يستمر انعدام حالة السكن والمودة طيلة مدة العقد المتفق عليها، أو تكون شكلاً عميقاً من البغضاء اللاشعورية، وهو ما يجعل أغلب عقود الزواج المنقطع باطلة. مع التأكيد على فرضية أن غاية الزواج المنقطع ليس مجرد قضاء الحاجة الجنسية.
والخلاصة؛ إن الزوجين اللذين لا يكونان سكناً لبعضهما، ولا تكون بينهما مودة ورحمة؛ فحلِّية استمرار زواجهما فيها إشكال، وإن لم يتطلقا شرعاً.
ولكن يبقى أن موضوع بطلان انعقاد الزواج ابتداءً، ووقوع الطلاق تلقائياً؛ بحاجة الى تدبير تشريعي، فقهي وقانوني، يتجاوز تعقيدات الخلع؛ وينظم عملية الانفصال رسمياً.
تطبيق شروط عقد المعاطاة على عقد الزواج:
هذا الكلام يفتح الباب أمام إمكانية تطبيق شروط العقود الأخرى، كبيع المعاطاة، على موضوعات أخرى، بدون إجراء صيغة: ((بعتك)) و((اشتريت))، على اعتبار أن قيمة عقد البيع وشروطه التفصيلية باتت، في المعاملات الحديثة، متفق عليها سلفاً، سواء متعارفة أو مدونة في لوائح. ومن هذه الموضوعات عقود الزواج، وإمكانية انعقادها تلقائياً، بمجرد حصول الرضا والمودة، بدون صيغة ((زوّجتك)) و((قبلت))، أو انفساخها تلقائياً، بمجرد حصول البغضاء وانعدام الرضا والسكن والمودة. هذا طبعاً فيما لو توافرت شروط عقد المعاطاة على عقد الزواج، وتحديداُ إذا تحول الى عرف اجتماعي.
وقد ناقشت، في أواسط عقد تسعينات القرن الماضي، أحد الفقهاء المعروفين بشأن صحة عقد الزواج المدني بين مسلمَين، فيما لو توافرت شروطه الشرعية، عدا عن إجراء صيغة العقد الشرعية، والتي هي بالأصل إقرار وتوثيق وإخبار وليس إنشاءً. فانتهى رأى هذا الفقيه الى ضرورة إجراء صيغة العقد من باب الاحتياط. ورغم استمرار النقاش، إلّا أنه لم يحسم الموقف الشرعي كما يرى.
ثم ناقشته حول إمكانية تطبيق شروط عقد المعاطاة على عقود الزواج وغيرها، بدون إجراء صيغة العقد؛ فاشترط أن تكون حالة المعاطاة في عقد الزواج أو غيره عرفاً اجتماعياً سائداً، أي فيما لو تعارف عليها الناس في زمان ما ومكان ما، وفي إطار مضامين وأشكال واضحة. ويقصد بذلك ما هو حاصل في المعاملات التجارية الحديثة والأسواق التي تعرض السلعة ومواصفاتها وقيمتها وشروط بيعها وشرائها، دون الحاجة الى السؤال والى إجراء صيغة عقد البيع، ولا سيما البيع الالكتروني. وهذا الأسلوب الرصين المتعارف عليه، هو بذاته عقد بيع شرعي، لا يحتاج الى مكاتبة وعقد لفظي، إلّا اللهم في المعاملات الكبيرة التي تحتاج الى عقود مكتوبة يتم التوقيع عليها، وهي الأخرى ليست بحاجة الى التلفظ بصيغة العقد أو صيغة الفسخ والفك.
بيد أن الأمر المذكور غير متحقق حالياً حيال عقود الزواج وغيرها من المعاملات والعقود والإيقاعات، وربما يتحول الى عرف اجتماعي في زمان ما ومكان ما.
وفي هذا الإطار ربما يدخل عقد البيعة أو الطاعة لولي الأمر (الحاكم الشرعي)، سواء البیعة المباشرة ( الانتخاب العام) أو غير المباشرة ( عبر الهيئة الناخبة المنتخبة من الأمة)، وانعقاده أو انفساخه تلقائياً، دون إعلان وصيغة لفظية ومدونة. وهو ما سنناقشه في مقالات قادمة، وفق ما عنونه الأنصاري في كتاب البيع.