متى وُلِد عيسى المسيح عليه السلام؟!
د. عبد القهار المجمعي ||
يُفهم من رقم التقويم الميلادي أنَّ السيد المسيح وُلد في السنة الأولى للميلاد، وعلى هذا الحساب يجري العمل بين الأمم الأوربية منذ سنة ٥٣٢ للميلاد، وهي السنة التي دعا فيها الراهب دينوسيس الصغير Exigus إلى تأريخ الأيام من السنة الأولى للميلاد، وصح الحساب على تقديره، ثُمَّ جرى العمل على حسابه إلى الآن.
ولم يكن الرجل صغيرًا في مكانته الدينية، ولكنَّه أطلق لقب الصغير على نفسه من قبيل التواضع والانكسار، وقد حقق بحوثه ومراجعاته ما استطاع في زمانه، فلم يسلم من الخطأ في حساب بضع سنوات، ثم تعذر إصلاح هذا الخطأ عند ثبوته، فتقرر استدراكه بإضافة أربع سنوات إلى التقويم القديم الذي يحسبه أصحابه منذ بدء الخليقة، واعتبروا أنَّ السيد المسيح وُلد في سنة أربعة آلاف وأربع بحساب ذلك التقويم.
أما القول الراجح في تقدير المؤرخين الدينيين وغير الدينيين، فهو أنَّ ميلاد السيد المسيح مُتقدم على السنة الأولى ببضع سنوات، وأنَّه على أصح التقديرات لم يُولد في السنة الأولى للميلاد.
ففي إنجيل مَتَّى أنَّه (عليه السلام)قد وُلد قبل موت هيرود الكبير، وقد مات هيرود قبل السنة الأولى للميلاد بأربع سنوات.
وقد جاء في إنجيل لوقا أنَّ السيد المسيح قام بالدعوة في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيبريوس وهو يومئذ يُناهز الثلاثين، وقد حكم طيبريوس الدولة الرومانية بالاشتراك مع القيصر أوغسطس سنة ٧٦٥ من تأسيس مدينة رومة، ومعنى هذا أنَّ السيد المسيح قد بلغ الثلاثين حوالي سنة ٧٧٩ رومانية، وأنَّه وُلد سنة ٧٤٩ رومانية أي قبل السنة الأولى للميلاد بأربع سنوات.
ويذكر إنجيل لوقا أنَّ القيصر أوغسطس أمر بالاكتتاب – أي الإحصاء- في كل المسكونة، وأنَّ هذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرنيوس واليًا على سورية «فذهب الجميع ليكتتبوا كل في مدينته، وصعد يوسف من مدينة الناصرة إلى اليهودية ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى، وتمت أيامها هناك فولدت ابنها البكر.»
والمقصود بالاكتتاب هنا على ما هو ظاهر؛ أمر بالإحصاء الذي أشار إليه المؤرخ يوسفوس، وأرخه بما يقابل السنتين السادسة والسابعة للميلاد، ولا يمكن أنْ يكون قبل ذلك؛ لأنَّ تاريخ ولاية كيرنيوس معروف وهو السنة السادسة، فيكون السيد المسيح إذن قد وُلد في نحو السنة السابعة للميلاد، وتكون دعوته قد بدأت وهو في الثالثة والعشرين، أو الرابعة والعشرين، وهو تقدير يُخالف جميع التقديرات الأخرى، ويُخالف المعلوم من مأثورات الإسرائيليين، فإنَّ الكاهن اللاوي عندهم كان يُباشر عمله بعد بلوغ الثلاثين، وكان الأحبار المجتهدون عندهم يبلغون الخمسين قبل الجلوس للتفسير والإفتاء في مسائل الفقه الكبرى، ولهذا قالوا عن السيد المسيح إنَّه لم يبلغ الخمسين بعد، وَيَدَّعِي أنَّه يرى إبراهيم ويستمع إليه، ولو أنَّه بَدَأ الدعوة قبل الثلاثين لكان الأحرى أن يُعجبوا لكلامه قبل بلوغه سن الكهنة اللاويين.
ويغلب على تقدير المؤرخين الثقات أنَّ الإحصاء المُشار إليه هو الإحصاء الذي ذكره ترتليان Tertullian، وقال إنَّه جرى في عهد ساتورنينس Saturninus والي سورية إلى السنة السابعة قبل الميلاد، فإذا كان هذا هو الإحصاء المقصود، فالسيد المسيح كان قد بلغ السابعة في السنة الأولى للميلاد.
ومن القرائن التي لا نريد أن نهملها، قرينة الكوكب الذي قيل إنَّ كُهان المجوس تتبعوه من المشرق ليهتدوا به إلى المكان الذي وُلد فيه السيد المسيح.
فمن المعروف أنَّ خُبراء فينيقية وفارس كانوا يشتغلون بالفلك والتنجيم، وأنَّهم كانوا في عصر الميلاد يرقبون حادثًا جللًا في التاريخ البشري حوالي سنة الميلاد، وكانوا كذلك يرصدون النجوم ليعرفوا من طوالعها بشائر ذلك الحادث الجلل المترقب من حين إلى حين، وكان قران المشتري وزُحل من الطوالع المهمة عند سكان المشرق على البحر، حيث ترصد الكواكب للملاحة والتفاؤل، وفي داخل البلاد الفارسية حيث ترصد الكواكب للعبادة واستيحاء الإرادة الإلهية، ويكفي أنْ نذكر بقايا هذه العادة في البقعة الفينيقية إلى ما بعد أيام المعري؛ لنعلم شأن الأرصاد هنالك، كما كانت في الزمن القديم، وقد كان المعري الضرير يُعنى نفسه بهذه الأرصاد، ويقول عن قران المشتري وزُحل خاصة في لزومياته:
قران المشتري زحلًا يُرجى لإيقاظ النواظر من كراها
وهيهات البرية في ضلال وقد فطن اللبيب لما اعتراها
وكم رأت الفراقد والثريا قبائل ثم أضحت في ثراها
تقضي النَّاس جيلًا بعد جيل وخلفت النجوم كما تراها
فإذا كان هذا ما تخلف من العناية بالأرصاد في البقعة الفينيقية إلى أيام المعري، فليس من الأمانة للبحث أن نهمل قرائن الأرصاد كلَّ الإهمال لأننا نرفض التنجيم، ونرفض دعوى المجوس فيه.
فمن المعقول أنْ نُنكر على المنجمين علمهم بالغيب من رصد الكواكب، وطوالع الأفلاك، ولكن لا يلزم من ذلك أن ننفي ظهور الكوكب الذي رصدوه، وأن نبطل دلالته مع سائر الدلالات، وبخاصة حين تتفق جميع هذه الدلالات.
وقد ذكر فردريك فرار في كتابه «حياة المسيح»١ أنَّ الفلكي الكبير كيلر حقق وقوع القران بين المشتري وزُحل حوالي سنة ٧٤٧ رومانية، ويقول فرار في وصف هذه الظاهرة إنَّ قران المشتري وزُحل يقع في المثلث نفسه مرة كل عشرين سنة، ولكنَّه يتحول إلى مثلث آخر بعد مائتي سنة، ولا يعود إلى المثلث الأول بعد عبور فلك البروج كله إلا بعد انقضاء سبعمائة وأربع وتسعين سنة وأربعة أشهر واثني عشر يومًا، وقد تراجع كيلر بالحساب فتبين له أنَّ القران على هذا النحو حدث سنة ٧٤٧ رومانية في المثلث النونين أو الحوتين، وأنَّ المريخ لحق بهما سنة ٧٤٨ رومانية.
ويظهر من هذا الحساب أنَّ تاريخ الميلاد يُضاهي التاريخ الذي يُستخلص من التقديرات الأخرى على وجه التقريب، وأنَّ السيد المسيح وُلد في نحو السنة الخامسة أو السادسة قبل الميلاد.
ونعود فنقول إنَّ إثبات الرصد لا يستلزم الإيمان باطلاع المجوس على الغيب من مراقبة الأفلاك، وكل ما يُفهم، ولا يجوز أنْ يُهمل، أنَّ الذين كتبوا تاريخ السيد المسيح بعد عصره بنحو جيلين كانوا يتناقلون خبر تلك الظاهرة، ويؤمنون بدلالتها على أنَّها حدث عظيم؛ فقرنوا بينها وبين ميلاد المسيح المنظور، ولعلَّ الأناجيل قد دُونت والنَّاس يتحدثون بقران فلكي من قبيل ذلك القران في حكم القيصر هادريان، فقد ظهر يومئذ مسيح كذاب آمن به الرباني عُقبة ليدحض دعوى المسيحيين، وسماه ابن الكوكب «بار كوكبه بالعبرية»، ونقش على العملة التي سكها صورة كوكب، فعادت الذاكرة بكتاب الأناجيل إلى تلك الظاهرة الفلكية النادرة، بعد الدعوة المسيحية بنحو سبعين سنة.
•••