الجمعة - 19 ابريل 2024

آن الأوان لرفع سعر الدينار العراقي مقابل الدولار: وجهة نظر اقتصادية

منذ سنتين
الجمعة - 19 ابريل 2024


بقلم: ||

منذ أن أصدرت الحكومة العراقية قرارها في كانون الأول 2020 القاضي بخفض قيمة الدينار العراقي والجدل مستعر في العراق حول جدوى هذه الخطوة وموجباتها والآثار التي قد تترتب عليها. ويشيع في العراق وصف خفض سعر الدينار مقابل العملات الأجنبية، والدولار الأمريكي على وجه الخصوص، بـ”رفع سعر الدولار”. وهذا خطأ لأن قيمة الدولار لم ترتفع وإنما جرى تخفيض قيمة الدينار العراقي بقرار حكومي. وإذا كان لهذا الإجراء ما يبرره حين اتخاذه، فلقد بات التراجع عنه أمرًا تقتضيه اعتبارات اقتصادية عدة سنأتي عليها في هذه الدراسة.
وعادة ما يكون للدولة عملتها الخاصة التي يشيع استخدامها في التعاملات المالية والتجارية الداخلية، في حين أن عملات أجنبية تُستَخدَم في التبادلات الخارجية. وتربط الدولة عملتها بسعر صرف محدد مقابل العملات الأجنبية ما يجعل قيمة العملة مضمونة. يُستَثنى من ذلك طبعًا تعويم العملة، أي تحريرها من أية ضوابط أو تدخلات من قبل الحكومة أو المصرف المركزي، وهو إجراء تلجأ إليه الدول أحيانًا بحيث تتيح لأسعار عملاتها المُعوَّمَة أن تتقّلب بالتساوق مع تقلّبات العرض والطلب على العملات في السوق.
ويعتبر خفض سعر العملة أداة من أدوات السياسة النقدية التي تلجأ إليها الدول في بعض الحالات. وعمليًا، فإن هذا يعني أن تعمد السلطة المعنية بإدارة السياسة النقدية في الدولة إلى اتخاذ قرار رسمي يقضي بتنزيل قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، الأمر الذي يؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع أسعار العملات الأجنبية، وهو ما يفسر الخلط الشائع عند الكثيرين حيث يصفون خفض سعر العملة بأنه رفع لأسعار العملات الأجنبية. على سبيل المثال، لو افترضنا أن البنك المركزي العراقي اتخذ اليوم قرارًا بخفض قيمة الدينار العراقي فإن مؤدّى ذلك هو تعديل سعر صرف الدولار من 1460.50 دينارًا عراقيًا، وهو سعره عند كتابة هذه السطور، إلى ما يساوي مقدارًا أعلى بالدينار العراقي، فلنقل 2000 دينار عراقي، مثلاً.
وتسعى السلطات المشرفة على السياسة النقدية عادة إلى الحفاظ على سعر صرف ثابت للعملة في سوق الصرف. ويتطلب هذا الأمر تدخّل السلطات النقدية في حركة التبادلات في سوق الصرف عبر التأثير على حجم العرض أو الطلب على العملة الأجنبية من خلال استخدام احتياطيها من العملات الأجنبية، الدولار الأمريكي أو اليورو أو غيرهما، لشراء العملة المحلية من السوق بسعر محدد. ويؤدي ذلك إلى الحفاظ على طلب ثابت على العملة المحلية بغية الحيلولة دون نقص قيمة هذه العملة المحلية والحفاظ بالتالي على استقرار سعر صرفها. ويُشترط في هذه الحالة أن تتوفر للحكومة احتياطيات كافية من العملة أو العملات الأجنبية تمكنها من إجراء عمليات الشراء. من هنا، فإن قدرة الحكومات على دعم الطلب على العملة المحلية مرتبطة بحيازتها على كميات وافية من العملات الأجنبية وعلى تواصل تدفق هذه العملات الأجنبية على مخزونها المالي. والحكومات التي تواجه هبوطًا متسارعًا في احتياطياتها من العملات الأجنبية، أو تباطؤًا في تدفق هذه العملات، غالباً ما تجد نفسها مضطرة إلى تقليص عملياتها التدخلية في السوق عبر صرف العملة، وربما إلى وقفها بالكامل حتى، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة المحلية في مسعى يضع نصب عينيه لجم الانخفاض المتزايد في رصيد احتياطياتها من النقد الأجنبي.
وقد لجأت الحكومة العراقية في كانون الأول 2020 إلى خفض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 20%. ولتوضيح الآثار المباشرة لذلك القرار يكفي أن نشير إلى أن سعر الصرف الرسمي للدولار الأمريكي في السوق العراقية قبل هذا القرار كان 1189 دينارًا عراقيًا، وعقب القرار الجديد انحدرت قيمة الدينار وارتفع سعر الصرف إلى 1458 مقابل الدولار. ولقد جاء هذا القرار بعد تقلص المخزون العراقي من النقد الأجنبي نتيجة الانخفاض الكبير الذي شهدته أسعار النفط في حينه. وعادة ما يكون المبرر المنطقي لهكذا إجراءات نقدية هو أن انزلاق منحنى قيمة العملة المحلية إلى الأدنى يرفع من قيمة الاحتياطيات النقدية الأجنبية مقابل العملة المحلية. وهكذا، فبدلاً من أن تطبع الحكومة المزيد من أوراق عملتها المحلية، يمكنها أن تحصل على عائدات أكبر بالعملة المحلية من الاحتياطيات المتوفرة لديها من العملات الأجنبية.
وللوهلة الأولى، فإن مؤدّى ذلك هو حدوث نمو كبير بين عشية وضحاها في مخزون الحكومة من النقد، بيد أن ذلك النمو لا يحدث بصورة طبيعية وإنما يكون مفتعلاً عبر السياسات النقدية. على سبيل المثال، لو افترضنا أنه كان لدى الحكومة العراقية 1000 دولار في احتياطياتها قبيل خفض قيمة الدينار، فإن ذلك كان يساوي 1189000 دينار عراقي فقط، بينما سترتفع قيمة الألف دولار هذه بعد خفض سعر العملة العراقية إلى 1458000 دينار عراقي. وبناءً على ذلك، ستنمو خزائن الحكومة العراقية من النقد المحلي على الورق بنسبة 20%، في حين يبقى حجم الاحتياطي النقدي بالعملة الأجنبية ثابتًا دون أن يطرأ عليه أي تغيير. وسيخلق ذلك انطباعًا زائفًا بأن الحكومة العراقية قد باتت أكثر ثراءً أو أنها صارت تتمتع بقدرة مالية أكبر مما كان الأمر عليه قبل خفض قيمة العملة.
مما لا شك فيه أن ثمة آثارًا اقتصادية كليّة إيجابية رئيسية تترتب على خفض قيمة العملة. فخفض قيمة العملة يجعل صادرات بلد هذه العملة أرخص في الأسواق الدولية. وبالتالي يسهم ذلك، نظريًا على الأقل، في زيادة حجم صادرات ذلك البلد ومن ثم في تعزيز النشاط الاقتصادي. إضافة إلى ذلك، يمكن لانخفاض سعر العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية أن يجعل من البلد الذي يعتمد سياسة خفض قيمة عملته مقصدًأ سياحيًا أكثر جاذبية وقدرة تنافسية، وهو ما يخلق فرصًا لتدفق رساميل أجنبية. كما أن ذلك يمكن أن يجتذب المستثمرين الأجانب لتوظيف أموالهم في فرص استثمارية في هذا البلد تتطلب منهم تحمّل تكاليف أقل للبدء بالمشاريع بالمقارنة مع ما قد يتحملونه لاقتناص فرص ومشاريع مماثلة في دول أخرى.
ولكن، وعلى رغم أن خفض قيمة العملة قد يمنح الحكومة مظهرًا خارجيًا يوحي بالمعافاة المالية واقتصاد مزدهر، فإن ثمة آثارًا قاسية ستنعكس على الاقتصاد بشكل عام، بحيث تطلق العنان لسلسلة متوالية من الآثار السلبية التي سيؤول بها الأمر إلى التأثير سلبًا على كافة الأفراد والأسر التي تعيش في تلك الدولة.
ومن غير المحتمل أن تتحقق الآثار الإيجابية النسبية لخفض قيمة العملة في حالة العراق، لأن صادراته غير النفطية ضئيلة للغاية حيث يستورد معظم احتياجاته الغذائية ومن السلع من الخارج. أما بالنسبة للنفط، فإن صادرات العراق مقيدة بالالتزام بنظام الحصص الذي تحدده أوبك ناهيك عن وجود قيود فنية وبنيوية على قدرته على الإنتاج والتصدير. فتزعزع الوضع الأمني والسياسي، أو على الأقل التصور السائد في الخارج بأن العراق يعاني من انعدام الأمن ويفتقر إلى الاستقرار السياسي، تستمر في تقليص القدرة التنافسية للسياحة العراقية، وخصوصًا السياحة غير الدينية.
ولربما كان الأثر الأبلغ والأشد وطأة لخفض قيمة العملة هو أن انخفاض القدرة الشرائية لهذه العملة يقلل من الطلب عليها. فحامل ورقة نقدية من فئة الـ25000 دينار، على سبيل المثال، سيحصل في حال قرر صرفها على مبلغ أقل بالدولار، أو الجنيه الإسترليني، أو اليورو، أو غير ذلك، في حال قرّر مثلًا السفر إلى الخارج لأي غرض كان، سواء السياحة والاستجمام، أو الدراسة، أو الاستشفاء، أو ما سوى ذلك. والأنكى من ذلك هو أن صاحبها سيشتري بها كمية أقل من السلع أو المواد الغذائية، عما كان بإمكانه شراؤه قبل خفض قيمة العملة. وهكذا، لن تعود العملة المحلية مرغوبة، الأمر الذي سيحدو بالمستثمرين أو أصحاب الرساميل إلى التخلي عنها عبر صرف ما لديهم من مبالغ بالعملة المحلية وتحويله إلى عملات أجنبية بغية الحد من خسائرهم وحماية رساميلهم. وستؤدي “عقلية القطيع” (herd mentality)، القائمة على سلوك تقليد الآخرين في ما يفعلونه لمجرد أنهم يفعلون ذلك، إلى تهافت أصحاب رؤوس الأموال على تحويل أموالهم إلى عملات أجنبية ما قد يدفع إلى خفوضات إضافية في قيمة العملة المحلية، أي أن الأثر المترتب على ذلك سيكون مشابهًا لتساقط أحجار الدومينو المصفوفة واحدة وراء الأخرى بحيث يؤدي سقوط الحجر الأول إلى توالي سقوط الأحجار التالية، وهذا ما يُعرف في العلوم الاجتماعية والسياسية بـ”تأثير الدومينو” (domino effect). وفي المحصلة النهائية سيواجه السكان التضخم الاقتصادي والذي، إن لم تواجهه الدولة برفع معدلات الأجور بنسب مساوية له، سيؤدي في خاتمة المطاف إلى مظاهر حياتية واقتصادية سلبية من قبيل تدني مستويات الحياة، وضعف القدرة على الإنفاق والشراء، وانكماش النشاط الاقتصادي.
ويطالعنا هنا سؤال: هل يتعين على الحكومة العراقية أن تعيد رفع قيمة الدينار العراقي؟ موقف وزير المالية العراقي تجاه هذه المسألة واضح. فهو يعتبر أنه لا مجال لإعادة رفع قيمة العملة وأن ذلك غير ممكن ويجافي المنطق لما سيترتب عليه من مضاعفات وعواقب وخيمة. ولكن في حين أن آثارًا سلبية قد تترتب على إعادة رفع قيمة العملة، فإن إعادة رفع قيمة العملة أمر ممكن فعلاً وسيؤدي إلى منافع اقتصادية أكبر. وسنحاول أدناه أن نستكشف مزايا وعيوب إعادة رفع قيمة الدينار في وقتنا الراهن.
يقف رفع قيمة العملة على طرفي نقيض مع سياسة خفض قيمتها لأنه سيرفع من قيمة الدينار العراقي مقابل العملات الأجنبية وفي مقدمها الدولار الأمريكي. فإذا ما اتخذت الحكومة قرارًا برفع قيمة الدينار فإننا قد نعود إلى سعر صرف مساوٍ أو مقارب لسعر الصرف السابق وهو 1189 دينارًا مقابل الدولار، بناءً على السعر الذي سترى الحكومة أنه مناسب. وسيؤدي اتخاذ قرار كهذا إلى رفع القدرة الشرائية لدى الأفراد والأسر الذين يمتلكون أرصدة بالدينار العراقي، وستنخفض أسعار المواد المُستورَدَة في السوق المحلية، ما سيساهم في توفير منتجات أجنبية ذات جودة أفضل وأكثر تنوعًا للمستهلك العراقي في السوق المحلية. ومع انخفاض أسعار الواردات وارتفاع قيمة الدينار ستتعدل الأسعار في السوق بما يتناسب مع سعر الصرف الجديد، ما سيؤدي إلى تراجع مستويات التضخم، من دون أن يعني ذلك بالضرورة عودة مستوى التضخم إلى ما كان عليه قبل خفض قيمة العملة. وسيؤدي ارتفاع القدرة الشرائية للمستهلك العراقي وتحسّن جودة ونوعية السلع المتوفرة في السوق إلى إقبال أكبر على الإنفاق وجعل الاقتصاد بشكل عام في وضع أكثر عافية ما سيجعل من العراق أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب. كما أن إعادة رفع قيمة الدينار ستوفر للحكومة العراقية سيولة أكبر من العملات الأجنبية ما سيساعدها على تسديد أية ديون سيادية مترتبة عليها للبلدان الأجنبية، ذلك أن الدينار العراقي بعد رفع قيمته سيشتري كمية أكبر من العملات الأجنبية ما سيخفف من أعباء تسديد الديون.
من جهة أخرى، من المهم أيضًا أن نأخذ بنظر الاعتبار الجانب السلبي لإعادة رفع قيمة العملة. فكلما ارتفعت قيمة العملة كلما باتت أكثر كلفة بالنسبة للأجانب، الأمر الذي سيضعف قدرة السياح الأجانب أو مورِّدي البضائع والسلع إلى العراق على شراء سلع وخدمات عراقية بالمقارنة مع كان عليه الأمر قبل إعادة رفع قيمة الدينار. وقد يؤدي ذلك إلى تدفق قدر أقل من الأموال الأجنبية إلى قطاعي السياحة والضيافة، بما في ذلك الفنادق والمطاعم، فضلا عن دفع الدول الأجنبية إلى البحث عن بدائل أرخص للصادرات العراقية.
ولكن إذا ما أخذنا واقع الاقتصاد العراقي وواقع أن السلعة الأساسية التي يصدرها العراق هي النفط، فإن تحليلاً للتكاليف والفوائد المترتبة على إعادة رفع قيمة الدينار سيحيلنا إلى تقدير كيفية تأثير هذا الإجراء على القدرة التنافسية للعراق في سوق النفط العالمية. ومن المهم أيضًا أن نأخذ بنظر الاعتبار تطورات الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا حاليًا، وما نجم وينجم وسينجم عنها من ارتفاع في أسعار النفط. ومن المؤكد ارتفاع أسعار النفط لوحده سيرفع من مستوى تدفق الدولار الأمريكي إلى خزينة الدولة العراقية. ولكننا في الوقت الراهن لا نمتلك أية معلومات تفيدنا في التوصل إلى تقدير دقيق لطول المدة الزمنية التي ستبقى فيها أسعار النفط مرتفعة في المستقبل. فربما يكون الارتفاع الحالي في سعر النفط في السوق العالمية قصير الأمد وسيتقهقر حالما يتم التوصل إلى حل بين البلدين المتحاربين، أو إذا ما قررت أوبك رفع حصص الإنتاج بغية خفض أسعار النفط العالمية. وأخيرًا، علينا أيضًا أن نأخذ بنظر الاعتبار واقع أنه في ظل التغيرات العديدة التي طرأت على الاقتصاد العراقي منذ خفض قيمة الدينار في كانون الأول 2020، فإن غالبية السكان قد تعايشوا مع الوضع الجديد الناجم عن خفض قيمة الدينار.
وبوسع الحكومة العراقية أن تمعن النظر في الإبقاء على الوضع كما هو عليه وعدم رفع قيمة الدينار. ولكن يبدو أن المنافع الاقتصادية المترتبة على إعادة رفع قيمة الدينار تفوق بكثير سياسة المراوحة عند الوضع الراهن. ولهذا فإنها تستحق نظرة موضوعية فاحصة بعيدًا عن المهاترات السياسية الصاخبة. وتوقيت خطوة رفع قيمة الدينار أمر بالغ الأهمية. فالوقت الحالي مناسب جدًا لذلك، وخصوصًا في ظل الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار النفط، وإحجام الأوبك عن رفع حصص الإنتاج، واستمرار الصراع الدولي المحتدم في أوكرانيا، وحولها، والذي يشكل ضغطًا في اتجاه ارتفاع أسعار النفط وارتفاع الطلب الدولي عليه.