الخميس - 02 مايو 2024

د.مسعود ناجي إدريس

 

بالنظر إلى أن القرآن نبذ أهل ذلك الزمان الذين قالوا إننا نتبع دين ومذهب آبائنا، فلماذا قال الله تعالى عن الإسلام هذا القول إن دين آبائكم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق و …؟
أو على سبيل المثال، في الآية 133 من سورة البقرة، قالوا أبناء النبي يعقوب (عليه السلام) لأبيهم: “{قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.. وعليه هل اتباع السلف السابق امر محمود ام مذموم؟
جواب:
إن القرآن الكريم هو كتاب هداية الإنسان ونموه نحو السعادة والكمال، وهو في هذا الصدد أكمل الكتب الإلهية التي عبرت عن جميع احتياجات هداية الإنسان. إن أحد المبادئ التوجيهية للقرآن الكريم هو وضع المعايير والقدوة الحسنة؛ وللإرشاد فهو يعطي معياراً ويقدم نموذجاً، كما أنه يبين طريق الانحراف والضلال، كما أنه يعرف الضلال والمنحرفين من أجل تقديم المعرفة أكثر وأفضل للمخاطب. ومن هذه الحالات تقليد الأجداد أو اتباعهم؛ ومن خلال قراءة المحتوى التالي، ستصبح هذه النقطة أكثر وضوحًا.
الاتباع الخاطئ والصحيح
فالتقليد والاقتداء بالآخرين قد يكون صحيحاً ومحموداً، أو مذموماً وغير صحيح؛ وقد ذكر القرآن الكريم حالتين من التقليد والاتباع:
۱. يشير القرآن الكريم إلى شعوب لم يكن لديها أي رأي منطقي ومعقول في تقليد أسلافهم واتباعهم واختاروا الطاعة العمياء لدرجة أنهم وقفوا أمام دعوة الأنبياء الإلهيين إلى الهدى والتقوى واستمروا في طريق عبادة اجدادهم، ولما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام، لم يكن جوابهم إلا أن آباءنا كانوا يعبدونها: وَ إِذَا قِیلَ لهَمْ تَعَالَوْاْ إِلی مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَ إِلی الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیهِ ءَابَاءَنَا أَ وَ لَوْ کاَنَ ءَابَاؤُهُمْ لَا یعْلَمُونَ شَیا وَ لَا یهَتَدُون].(المائدة، ١٠٤.)
وأخيرًا، هؤلاء الناس عندما يواجهون العذاب الإلهي في يوم القيامة، يلعنون من جعلوهم قدوة لهم ويسألون الله أن يضاعف لهم العقاب. یوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِی النَّارِ یقُولُونَ یا لَیتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَکُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَینِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا کَبِیرًا!).(الاحزاب، ٦٦ الى ٦٨.)
وفي هذا السياق آيات كثيرة، منها: سورة يونس، الآية 78؛ سورة الأنبياء، الآيات 53 و 54؛ سورة الشعراء، الآية 71 إلى 74؛ سورة لقمان، الآية 21؛ سورة الأعراف، الآية 28؛ سورة النجم، الآية 27 و 28؛ وايات أخرى.
۲. الصواب والواجب اتباع الحق والقادة الذين أثبتوا حقهم بالمنطق والمعجزات؛ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ إِلاَّ رِجالاً نُوحی إِلَیهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ].(النحل، ٤٣.)
ملاحظة مهمة
تتعلق مثل هذه الآيات بـ “أصول الدين”؛ لأن ما تعلمه المشركون من كبارهم ورؤسائهم وآباءهم وتصرفوا به، هو في الغالب شرك وعبادة أصنام وخرافات واعتقادات باطلة؛ وقوانينهم الباطلة أيضاً مستمدة من نفس الخرافات، ونحن نعلم أن التقليد لا يجوز في مبادئ الدين.
لذا لا يقتصر الأمر على مجرد الاتباع والتقليد، بل يتعلق بنوع الاتباع والتقليد؛ إن تقليد السلف واتباعهم إذا كان باطلاً وضلالاً، أو على نحو أعمى وغير عقلاني وبغير سبب معقول، أمر مكروه ومحرم ومنبوذ، كتقليد عبدة الأوثان لعبادتهم وعاداتهم الجاهلية لآبائهم وأسلافهم؛ أما إذا كان هذا الاتباع مبنيا على الوعي وعلى طريق الهداية والنماء والتميز، كاتباع التوحيد والموحدين في الماضي، فهو محمود ومقبول.
والفرق الجوهري بين اتباع المشركين لآبائهم وأجدادهم، وبين اتباع المؤمنين لآبائهم وأجدادهم، قد ثبت في اتباع الباطل بلا سبب، واتباع الحق؛ ولذلك فإن أحدهما باطل مرفوض، والآخر حق مرغوب فيه؛ ولذلك فإن القرآن الكريم ينكر تقليد المشركين واتباعهم، ويمدح اتباع المؤمنين من آبائهم الصالحين.