حوارات العراق مع الاخرين..الثابت والمتغير..!
جمعة العطواني ||
نتابع باستمرار ما تحمله قناعات وتصورات وانطباعات العديد من المتابعين لنتائج جولة الحكومة العراقية لاغلب دول المنطقة والعالم، وما تمخض ويتمخض عن تلك الزيارات بعين الرضا احيانا والقلق والشك احيانا اخرى، حسب نوع الزيارة والدولة المعنية .
اولا- عندما يزور رئيس الوزرء( اي رئيس وزراء سابق اولاحق) دولة مثل الصين وروسيا والجمهورية الاسلامية او السعودية اوغيرها من دول المنطقة اوالعالم يشعر بعضنا بالتفاؤل لنتائج الزيارة، وكل مذكرات التفاهم اوالاتفاقات المبرمة مع تلك الدول على انها تمثل نقله نوعية في علاقات العراق وتشابك المصالح مع تلك الدول، حتى ان اغلبنا ينظر الى العراق على انه خرج من كونه دولة تعيش ازماتها الى دولة محورية تشارك في صناعة ( النظام العالمي الجديد ).
ثانيا- بينما يرى الاخر( المختلف) على ان هذه الزيارات هي تموضع عراقي ضمن الخط المعادي لامريكا وحلفائها، وبالتالي فان العراق سيواجه صعوبات اقتصادية وسياسية وامنية كبيرة بسبب هذا التموضع الجديد.
ثالثا- كل طرف من الطرفين المتعارضين من حيث التفاؤل والتشاؤوم ( ينتزع ) بعض الاسقاطات من كلمات هذا المسؤول او ذاك، او تصريح من هنا وهناك لينسج ما يراه خياله منسجما مع وجهة نظره .
على سبيل المثال لا الحصر، عندما يزور مسؤول عراقي السعودية ويحصل اتفاق ما على مجموعة من الملفات، هنا ينفتح اصحاب القناعات المسبقة مع او ضد هذه الزيارة ليذهبوا بها اقصى اليمين واقصى اليسار كل حسب مخاوفه او تفاؤله.
فالمتشائمون من الزيارة يقولون على سبيل المثال، بما ان السعودية ذاهبة الى التطبيع، وبما انها شجعت على مشروع ابراهام الذي ترعاه امريكا، فان زيارة المسؤول العراقي لها سيدخل في خانة جرالعراق الى التطبيع غير المباشر وصولا الى التطبيع المباشر، ويذهب به خياله الى اكثر من ذلك وهو: ان( طريق الحج المسيحي ) الذي ترعاه الحكومة ما هو الا بداية للانخراط بالتطبيع ضمن مشروع ابراهام.
ثم ياتي طرف اخر ليقرّع الحكومة العراقية ومؤيدوها ليقول، هذه السعودية التي قتلت ابناءنا وخيرة رجالنا في دعهما للارهاب وتموضعها ضد العملية السياسية، كيف يقوم مسؤول عراقي كبير بزيارتها وفتح افاق للتعاون بين البلدين، اين دماء ابناءنا ؟.
بالنتيجة يخرج هؤلاء بحصيلة ان الحكومة العراقية هذه التي نسميها (الحكومة الشيعية) هي حكومة عميلة ومطبعة، وقد تاجرت بدماء ابنائنا وبثوابتنا الدينية والعقائدية.
رابعا- بالمقابل عندما يفتح العراق افاق التعاون وبناء علاقات مع الطرف الاخرالمتمثل بامريكا وحلفائها او تركيا والتوقيع على مذكرات تفاهم او اتفاقات في مختلف المجالات ستتبادل النخب المختلفة المواقف على النوع الاول من العلاقات، حيث يتادلون الادوار.
فبعض النخب المرحبة بزيارات الحكومات العراقية للصين وروسيا وايران وغيرها من دول المنطقة، بعض هذه النخب تعيش (نظرية المؤامرة ) هذه المرة، وتنتزع من كل كلمة تقال هنا او هناك مقالات ودراسات لتبثت ان العراق انخرط في محور التطبيع الى غير رجعة، وان هذه الاتفاقات ستؤثرعلى مستقبل فلسطين برمتها، وان تركيا ستعيد امبراطوريتها العثماية الى سابق هيمنتها على منطقتنا.
خامسا- الحديث الواقعي يرفض كلا الطرفين المتفائين والمتشائمين على حد سواء، والواقعية التي ننطلق منها وفق مبدا ( امر بين امرين ).
الواقعية التي ننطلق منها نحن كجزء اساس في محور المقاومة، والواقعية هذه ننطلق منها ايضا بتقسيم الواقعية السياسية لمحورالمقاومة، فليس من الصحيح ان تكون علاقلت دول محور المقاومة ضمن مسطرة واحدة، وذلك لتفاوت الظروف السياسية التي تعيشها تلك الدول، فبعض الدول تعيش حالة من المركزية ووحدة القرار، ودولة اخرى تعيش حالة من التفاوت بين راي الدولة وراي الفعاليات العسكرية المتمثلة بفصائل المقاومة، فهنالك اختلاف في المواقف، وهناك طرف اخر في محور المقاومة يعيش ظروفا خاصة تمنعه من الانفتاح على دول اخرى، وليس رافضا لهذا الانفتاح.
على سبيل المثال الوضع السياسي في الجمهورية الاسلامية في ايران يختلف عن الوضع السياسي في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
والوضع السياسي في العراق يختلف هو الاخرعن الوضع السياسي في سوريا واليمن وهكذا لبنان واليمن، هذه هي اطراف محور المقاومة .
فليس من الصحيح ان ناخذ احدى دول محور المقاومة لنجعلها (معيارا ) في مواقفنا السياسية وعلاقاتنا مع بقية الدول، بتعبير اخر اذا اخذنا الجمهورية الاسلامية على سبيل المثال كمعيار لرسم علاقاتنا وعداواتنا مع سائر دول العالم، هذا المعيار بهذه الدقة غير صحيح، حتى في نظر الجمهورية الاسلامية، فايران تشجع العراق مثلاعلى بناء علاقات مع سائرالدول حتى المتخاصمة معها، بما يحفظ استقلال العراق ومكانته وخصوصيته السياسة ايضا مع الاحتفاظ بثوابته الدينية والسياسية، فعندما ينفتح العراق على السعودية فهو مصدر ترحيب ايراني رغم الخصومة والقطيعة السياسية بينها وبين السعودية، لكنها تقدر وضع العراق وخصوصيته السياسية، وبناء علاقات عراقية سعودية لا يعني تغير في علاقلت العراق مع ايران او محور المقاومة، وهكذا عندما فتحت ايران افاق العلاقات مع السعودية فان ذلك مصدر اطمئنان بالنسبة الى حزب الله لبنان، رغم الخصومة الكبيرة بين السعودية والحزب على وجه الخصوص، لكن حزب الله يقدر الظروف السياسية للجمهورية الاسلامية.
من خلال هذه العلاقات الوزانة والرصينة ستنتفح افاق كبيرة لكل دول محور المقاومة، فكل من هذه الدول سيكون لاعبا مهما في تقريب وجهات النظر بين بقية اطراف المحور والدول الاخرى، فالعرق لعب دورا مهما في تقريب وجهات النظر بين ايران والسعودية وتوجت تلك الجهود بانعقاد لقاءات واتفاقات ادت الى اعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
والعراق في بداية سقوط نظام البعث المقبور ايضا لعب دورا في تقريب وجهات النظر بين اكبرعدوين هما ايران وامريكا، ونجح في عقد اكثر من لقاء بين البلدين في العراق.
تعدد الادوار هذه يساعد كل دول المحورفي تحقيق الهدف المشترك فيما بينهم.
نتذكر جيدا ان الجمهورية الاسلامة اجرت حوارات مباشرة وغير مباشرة مع امريكا لانتزاع حقوقها، وبالفعل استطاعت ان تخرج باتفاق نووي انتزعت فيه ايران حقوقها امام اعتراف المجتمع الدولي.
هذه الحوارات الايرانية الامريكية المباشرة وغير المباشرة لم تجعل ايران دولة صديقة لامريكا، ولم تخرج امريكا من كونها الشيطان الاكبر، وهكذا العلاقات الايرانية مع الدول المطبعة لم تخرج ايران من ثوابتها، ولم تعط شرعية لتطبيع تلك الدول مع الكيان الصهيوني.
كذلك الحال بالنسبة الى حزب الله، فان الحكومة اللبنانية( وهو مشارك فيها) فتحت حوارا مع الكيان الصهيوني لترسيم الحدود البحرية، واحترم حزب الله خصوصية لبنان، واكد بانه سيلتزم بمخرجات الحوار والاتفاق، لكن ترسيم الحدود البحرية وربما مستقبلا (البرية) بين لبنان والكيان الصهيوني لم يخرج لبنان من دائرة محور المقاومة ،ولم يتعامل حزب الله مع الكيان الصهيوني على انه دولة معترف بها او يغير من عدائه لها.
الحال بالنسبة الى العراق لا يختلف كثيرا عن بقية دول المحور مع الاحتفاظ بالخصوصية السياسية والاقتصادية والامنية لكل بلد .
سادسا- عندما نريد بناء طريق التنمية فان ابواب العراق مشرعة امام كل دول المنطقة والعالم، وهو امر مرحب به من الجميع، بما في ذلك الجمهورية الاسلامية، بل ربما ساضطر( للبوح) بمعلومة خافية على الجميع وهي :
ان هذه الحكومة عندما شرعت ببناء ربط سككي مع ايران صرحت بانه لنقل المسافرين، لكي لا يؤثر على ميناء الفاو، لكن الحقيقة الغائبة عن الكثيرين هي، ان هذا الطريق بعد فتح ميناء الفاو سيتحول الى ربط سككي تجاري لنقل البضاع من ايران والصين والهند وباكستان وغيرها من دول اسيا.
اشتراك دول المنطقة في الاستثمار في طريق التنمية سيجعل العراق مركزا وثقلا تجاريا واقتصاديا، بالاضافة الى سعي تلك الدول ليكون العراق مستقرا امنيا، لان مصالحها مرتبطة باستقرار العراق، وسيكون استقرار العراق وقوته الاقتصادية لصالح محور المقاومة.
سابعا- وهكذا الحال بالنسبة الى ازمة المياه مع تركيا، التي ذهب البعض منا بعيدا في التحليل وفق (المخيال) السياسي الى هيمنة تركيا وفرض شروطها على العراق، بينما غاب عن هذا البعض بان العراق قد خسر قرارا في المحاكم الدولية في حصته من المياه مع تركا، لانه لم يلتزم بالشروط الواجب توافرها في ترشيد المياه، ولهذا فان العراق بحاجة الى عمل ما يكفي لترشيد المياه وتقليل الهدر فيه، وهنا يريد العراق ان يلزم تركيا ويسحب منها كل الذرائع التي تتحجج بها، فعمل على الاتفاق على احالة ما مطلوب منه الالتزام به الى الشركات التركية المختصة في مجال المياه مقابل التزام تركيا بما عليها وفق القانون الدولي الذي يحكم بين الدول المتشاطئة، وهنا لن يبقى لتركيا اي مبرر لعدم الالتزام بواجباتها تجاه العراق.
ثامنا- واخيرا نتفق جميعا على الاخفاق في الاداء السياسي للقوى الشيعية، وهذا امر مفروغ منه، كما نتفق على الاخفاق الحكومي خلال العقدين من زمن الدولة الجديدة، لكن في الوقت نفسه ليس من الصحيح تخوين كل القوى السياسية الشيعية ووضعها في خانة المؤامرة على الشيعة والتشيع وثوابت الدين، فرغم اخفاق غالب القيادات السياسية لكن لا اتصور ان يقطع احدنا جازما انهم جميعا ليس لديهم دين يدافعون عنه، او انهم يتاجرون بدماء شيعة العراق الى هذا الحد، وربما لا يزايدنا احد في نقدنا لزعماء الاطار بهذا الخصوص .
لكن هناك ثوابت لا يفرط بها اغلب زعماء الاطار، ولا تلك الثوابت مرهونة بيدهم فقط.
فالعراق هو العراق، وخصوصيته الدينية ومجتمعه ملتزم بتلك الثوابت، وقبل هذا وذاك وجود مرجعيته الدينة التي تراقب عن بعد طبيعة الاداء السياسي، وسيكون لها موقف حازم عند تجاوز تلك الثوابت، كلها عوامل تحول دون ان ينجر العراق باتجاه التطبيع الذي يتخوف منه البعض، او ان ينجر الى المتاجرة بدماء الشهداء.
تاسعا- ما يجمعنا بمحورالمقاومة هوالدين قبل اي اعتبار اخر، وهذا الدين هو الذي فرض علينا ان نكون جزءا مهما بهذا المحور المقاوم ، والسياسيون الشيعة حتى الذين لا نحسن الظن بهم يعلمون ان رصيدهم الشعبي مرهون بمدى الثبات على ثوابت الدين ولا اعتبار اخر لهم غير ذلك امام المجتمع.
هذا الثابت الديني يحتم علينا القول ان امريكا عدوة الاسلام، ولهذا السبب نعاديها، لكن عندما تاتي الفرصة لايران وتنتزع حقوقها من هذا العدو، وعندما تتاح الفرصة للعراق في التعامل مع هذا لعدو بواقعية ويحصن نفسه وينتزع حقوقه، بل عندما تاتي الفرصة لسوريا في اعادة علاقاتها مع هذا العدو وتتعامل معه على اساس انتزاع الحقوق، فان ذلك لا يخرج الجميع من دينه والدفاع عن قضيته، ولا يجعله مطبعا او متمحورا مع العدو .
كذا الحال بالنسبة لروسيا والصين، فلا مشترك عقائدي ولا ثابت سياسي يجعلنا نركن اليهم، بقدر ما ان علاقاتنا معهم مبنية على اساس ثوابتنا وخصوصياتنا ونتعامل معهم وفق هذه الثوابت والخصوصيات، فلا البوذية الصينية ولا الشيوعية، ولا الراسمابة الغربية- الامريكية نشترك بها معهم ، بقدر ما يحافظ على ثوابتنا وخصوصياتنا، وعلى الجميع ان يعمل وفق هذا الثابت والمتغير في علاقاتنا مع دول العالم.