عمارة” الفكر والتفكير والسلوك..مشهدية الفتى عمرو..!
عمار محمد طيب العراقي ||
عندما تتغير الأفكار فـ “قد” تؤدي إلى تغيير السلوك، التغيير هنا ليس حتمياً، لكنه يحدث دون أن يرافقه تغيير في المفاهيم، تتغير الوقائع لكن المسالك هي ذاتها، فمسالكنا جزء من كينونتنا، وهي عنوان صيروريتنا، هي ذاتنا العلنية التي نفتخر بها، وحتى السيء منها، هو عنواننا وإن أهملنا الإعتراف بذلك..هذا التفكير هو الهوة المعروفة بين الفكر والسلوك، وسنكون منافقين دون أن نعلن ذلك.
السلوك عمل صعب جدا، يحتاج الى مران وتدريب طويلين، وأصعب من عملية تغيير الأفكار، عملية تغيير السلوك، إنها امر معقد جدا، وإن جرى فإنه يجري للحظات، ثم نستفيق على أنفسنا ونعود من حيث أتينا، لأن تعيير السلوك لا يشمل الإيمان بفكرة جديدة فقط، بل هو ايضا عملية استئصال الأفكار السلبية من رؤوسنا.
سيكون تغيير السلوك؛ أصعب وأعقد من مجرد الاقتناع، لأن الفكرة السلبية لها رواسبها وجذورها المتأصلة في اللاوعي، هذا الكائن الذي يرافقنا حتى بعد موتنا.
الفكرة الجديدة تبقى طارئة فينا، لآنها ماتزال في سطح الوعي، وتبقى ولكن ليست مؤصلة أو مرسخة، بمفاهيمنا كسلوك اجتماعي، شأنها شأن الفكرة السلبية.
خذ عندك المدخنين؛ فهم جميعا يعلمون؛ أن التدخين سبب رئيسي؛ لأمراض القلب والشرايين والسرطان والبلاء الأسود، ويقرأون ذلك على أغلفة علب السكائر التي يضعونها في جيوبهم، بل أن معظمهم يمنع غيره عن التدخين، لكنه يدخن بشراهة!
هذا الوعي لا ينتج كثيرا تغييراً في سلوكهم، رغم قوة الحملات الإعلانية التي تدعوهم لذلك، لكنهم يفتخرون بعلبة تبغ معتق كوبي”فاخر”.!
عملية الإقلاع والامتناع عن المتابعة للفعل السيء، تتطلب آليات معقدة، أكثر بكثير من مجرد المعرفة والعلم، وأكثر من مجرد الوعي.
هنا استحضر مشهدية ((عمرو بن جنادة بن كعب بن الحارث الأنصاري))، الذي استشهد في طف كربلاء وكان عمره بين 9 ـ 11 من السنوات..كان من أصحاب الإمام الحسين “ع”، ونسمعه في صولاتها مرتجزا فيقول:
أصف الخناق من ابن هند وأرمد.. من عاهة لفوارس الأنصار
ومهاجرين مخضبين رماحهم.. تحت العجاجة من دم الكفار
حسنت على عهد النبي محمد.. فاليوم تخضب من دم الفجار
واليوم تخضب من دماء أراذل.. رفض القرآن لنصرة الأقدار
طلبوا بثأرهم ببدر إذ أتوا.. بالمرهفات وبالقنا القتار
والله ربي لا أزال مضاربا.. في الفاسقين بمرهف بتار
هذا على الأزدي حق واجب.. في كل يوم تعانق وكرار
ونعود اليه وهو في عمره بتسع سنوات على الأكثر، والى بلاغته ودفاعه عن الحسين”ع” حتى الموت، والى هذه اللغة العجيبة، القاحلة من مفاهيم القبول بالعبودية لغير الله تعالى، ونكتشف أن سلوكه كان طبيعي جدا، لأنه تربى في بيئة تعشق الموت من أجل الحياة، فسار القول فيهم، مسار الفعل منهم، موت من أجل الحرية والشهادة من أجل الحياة.
المبارك العظيم يقول في كتابه المحكم الفريد: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219].
التفكير السليم الذي أمتلكه؛ الفتى عمرو بن جنادة بن كعب بن الحارث الأنصاري في معركة الطف، قاده الى ان يكون ملهما بأفعاله وأقواله، فسجلها له التأريخ جلية قوية الى يومنا هذا، وستبقى كلما تذكرنا الطف، وسينسج رجال المنابر والتعزية عنها أقوالا تمجدها، وهي تستحق ذلك وأكثر.. فتى مات أبوه في دفاعه عن الحسين”ع”، فأرتجز ليموت بعده..تلك هي القصة العظيمة التي نمجدها..إنها حديث عن الإبداع من أجل النصر أو الشهادة…!
الإبداع قدرةً عقليَّة، حيث التفكير الابتكاري، هو مجموعة من القدرات، التي يمكن التعرُّف عليها وقياسها، معلوماتيا وعلميا، وحيث يقاس التفكير الإبداعي على أربع قدرات.
الطلاقة؛ حيث قدرات المرء؛ على الإتيان بأكبر كم ممكن من الفِكر مهما كان نوعها..وحتى لو كان الهدف هو الموت.
المرونة؛ حيث القدرة على الانتقال من فكرة إلى أخرى، مهما كانت مستوياتها..ونحو الموت الذي هو هين هنا.
الأصالة؛ قدرة المرء على الإتيان بفكرة جديدة، لم تخطر على مخ أحدٍ، حتى في الموت الذي سعى اليه (عمرو بن جنادة بن كعب بن الحارث الأنصاري)، وهو يعلم انه ميت ميت، فليمت بأعز مقام. .
التفصيلات:
هي أن يكون المرء قادرا على الإضافة، إلى الفكرة الأصيلة، لجعلها أكثر رونقًا وجمالاً، وملاءمةً لمواجهة مشكلته وإقناع مَن حوله، واقناع أمه الحبيبة القريبة منهأ وهي تصرخ به مت يا عمرو، فليس أعز من “الحسين” من تموت من أجله وفداه..إنها وهو كانا يريان الجنة رأي عين..!
الروائي والباحث الإيطالي “أمبرتو إيكو” يقول: “الحضارة الغربيَّة لم تعد لحظة تاريخيَّة ولا منطقة جغرافيَّة، إنما آلة تدور لكي تصرع الجميع، حتى القائمين عليها.
هنا نتوقف قليلا لنقرأ القصة جيدا، فنتعرف على “الفكر والتفكير”، وظيفتنا هنا أن نتسائل هل الى الأولى لنكون في الثانية؟
وما هي الموهبة التي يجب أن نحملها ونحرص عليها؟
وما هو الإبداع؟
ومن هنا سنتعرف بسهولة على الشخص الموهوب..!
معرفتنا ذلك بتلافيفه وأدرانه، تجعلنا نخطو الخطوة الأولى الصحيحة، في عملية البحث عن الموهبة والإبداع.
المواهب والإبداع والتفكير السليم وبناءات التكوين العقلي، صفات لا تقوم بذاتها، ولا بد من وجود شخص يقوم بها..هذا يستدعي معرفة ما هو التفكير الإبداعي أو الابتكاري، من هو الشخص المبدع، وما هي جوانب الإبداع فيه، وكيف نبحث عنها، وما الوقت المناسب لاستكشافها، ثم ما هي الأدوات المناسبة التي تساعدنا في عملية البحث والاستكشاف؟
ما هي النظريات المكتشفة للإبداع ومعيقاته ما هي آليات بعث الإبداع في النفس البشرية؟!
تلك معايير تستدعي نقاشات ضخمة، بل حلقات دراسيَّة مهمة.
شكرا
28/4/2025