الجمعة - 09 مايو 2025
منذ ساعة واحدة
الجمعة - 09 مايو 2025

رياض الفرطوسي ||

 

 

كم هو موجع أن تُحسب الأعوام عليك، وأنت في الحقيقة لم تعشها. سنوات كاملة تقف فيها الحياة عند مفترق الوجوه ذاتها، وتعيد نفسها كأنها لُعْبة مكسورة لا تتعلم من الخسارات. تخيّل أن تُحبس داخل غرفة واحدة، تتغير فيها المقاعد والمواعيد، لكن لا شيء يتحرك في الجوهر. تخيّل أن تصحو كل صباح على الوجوه نفسها، الكلمات نفسها، الإيماءات ذاتها، الخُطب التي تكرر أوزارها، والوعود التي تشبه الغبار: حاضرة دائماً، ولا تنظف شيئاً.

أي سجن هذا الذي لا جدران له، لكن فيه تتآكل الروح؟
أي عقوبة هذه التي لا تحمل اسماً في القانون، لكنها تفتك بأعصابك، وتُجهز على ذائقتك، وتسرق من دماغك القدرة على الحلم؟

لو أن الإنسان نُفي إلى دار تُعزف فيها الموسيقى كل يوم، أو إلى صحراء تتجدد رمالها، أو عاش في سفينة تطوف على مدارات الجزر، لتسلّى، لوجد متعة في التفاصيل، لابتكر للفراغ معنى.
لكن أن يُدفع قسراً إلى حضن التكرار، إلى مدن الوجوه المتقشرة، حيث يتجول الماضي على هيئة بشر، وتُعاد الخطايا في نشرات الأخبار، فهذا عذاب لا يُطاق.

نعيش وكأننا نحيا في خزان زجاجي معزول، نشهد كل شيء، ولا نستطيع أن نلمس شيئًا. نتحرك مثل تماثيل مشققة تُعرض في متحف ميت، والجمهور مكوّن من ذاته، كل واحد يحدّق في نفسه ولا يرى.

ليست المأساة في فساد بعضهم، بل في تعوّد الناس عليهم.
ليست الكارثة في خطاباتهم، بل في استماعنا المُستسلم.
ليست الجريمة في تكرارهم، بل في اعتبار تكرارهم أمراً طبيعياً.

حين تُحبس في مشهد كهذا، لا يكفيك الانسحاب.
تحتاج إلى طقوس تطهير كاملة:
أن تنزع جلدك القديم، أن تغسل رأسك بالصراخ، أن تُمسح عيناك بالدهشة من جديد.
تحتاج إلى نُزهة في لا مكان، إلى عزلة حقيقية تُربّي فيك القدرة على النسيان.
تحتاج إلى عدالة تعيد تعريف البشر لا حسب نسبهم، ولا قومياتهم، ولا رتبهم، بل بقدر ما يضيفونه للكرامة العامة.

الديمقراطية الحقيقية لا تُفرزها صناديق مثقوبة، بل عيون مفتوحة، وذاكرة لا تصدق.
العدالة لا تقوم على الشعارات، بل على مبدأ التجريد: الإنسان وحده، بلا رافعة حزبية، أو عشيرة تورث الجاه، أو دين يُستخدم كسلّم لسرقة الأرواح.

في المجتمعات المتآكلة، تتحول العصبيات إلى قواعد، ويتحول الانحطاط إلى عادة.
كل شيء يصبح مألوفًا: الجهل، والغلظة، وابتسامات الصدفة التي تُدار لتمرير الجرائم.
حتى الظلم، حين يُعاد تكراره كل يوم، يصبح مثل الخلفية الموسيقية التي ترافق النوم الثقيل.

ولذا فإن الصمت في هذه الحالة ليس فضيلة، بل جريمة مضافة.
والاعتياد ليس تكيفاً، بل سقوط حر.
وكل يوم نعيشه في ظل هذا المشهد الثابت هو خصم مباشر من آدميتنا.

نحن لا نُطالب بالحياة الفاخرة، ولا بالمدن الفاضلة، بل فقط: أن نعيش دون أن يصفعنا العفن في وجوهنا.
أن نكسر هذا التكرار المتخشب.
أن نخرج من كهف الخوف والدهشة الميتة.

نريد فقط أن نعيش كأننا نعيش.
لا أكثر.
ولا أقل.