عصر الشاشة واغتراب العقل: أين نحن من بناء الإنسان؟!
د. عامر الطائي ||
لقد أضحى الإنسان في هذا الزمان رهيناً للشاشة، حبيساً لما يُعرض عليها من برامج وأخبار وصور لا تنفك عن استنزاف عقله ووقته وروحه. إننا نعيش عصراً أصبحت فيه الأجهزة الذكية سيدة البيوت والمدارس والشوارع، تسيطر على الكبار والصغار دون تمييز،
وتُغرق العقول في بحر من الإغراء البصري الذي لا ينضب. ولئن كانت المعرفة يومًا تُطلب بشق الأنفس في ضوء المصابيح وعلى صفحات الكتب التي تحمل عناء كاتبيها، فقد باتت اليوم تُستبدل بمقاطع الفيديو والمنشورات السريعة التي تفتقر إلى العمق والمعنى، مما أدى إلى تغييب المجهود العقلي والتأمل الحقيقي.
إن طالب العلم اليوم يواجه أزمة حقيقية ليست أزمة مصادر أو أدوات، بل أزمة تركيز وإرادة. فقد استبدل كثير من أبنائنا صفحات الكتب بالمحتوى الرقمي السطحي،
وانحرفوا عن طريق الفهم العميق والتفكير المنطقي نحو اللهو الذي تقدمه وسائل التكنولوجيا الحديثة. وما زاد الطين بلة هو أن هذا الاستخدام المفرط للتكنولوجيا أدى إلى سطحية التفكير، وضعف القدرة على الربط المنطقي، وتعجل الأحكام، ناهيك عن الآثار النفسية المدمرة من قلق دائم وانفصال عن الواقع وفقدان الصلة بالقيم الإنسانية الأصيلة.
إن علاج هذا الداء يبدأ بإعادة صياغة التربية والتعليم على أسس متينة، تُحيي في النفوس حب المعرفة وتُغذي فيها القيم العليا. علينا أن نعيد لأطفالنا بهجة القراءة ومتعة الحوار والتأمل بعيدًا عن الشاشات،
وأن نضع قوانين صارمة تحكم استخدام الأجهزة الذكية في البيت والمدرسة. كما أن على المؤسسات التعليمية دورًا حيويًا في استخدام التكنولوجيا بذكاء وعقلانية، حيث تُدمج في العملية التعليمية كوسيلة مساعدة وليست بديلاً عن التفكير والعمل الجاد.
إن بناء الإنسان لا يتم إلا بالعودة إلى الجهد الحقيقي في طلب العلم، وربط العقول والقلوب بالقيم التي تمنح الحياة معناها. فما قيمة التكنولوجيا إذا أفقدتنا التفكير؟
وما جدواها إذا أغرقتنا في سطحية تسرق منا روحنا وإنسانيتنا؟ إننا بحاجة إلى ثورة ثقافية وتربوية تعيدنا إلى جوهر الإنسان، وتُحرر أجيالنا من اغترابها أمام الشاشات، لتكون أداة لبناء المستقبل لا سببًا في انهياره.