الأربعاء - 14 مايو 2025
منذ أسبوعين
الأربعاء - 14 مايو 2025

الشيخ قاسم ال ماضي ||

 

 

لا أدري أأصفها مقال ام قصةً أم معجزةً أم برهانًا ساطعًا على الحقيقة، لكن الأهم أن تكون تلك الكلمات التي سطرتها، والحروف التي امتزجت فيها، قربةً إلى الباري سبحانه، ورضًا للنبي وآل بيته الأطهار، وبلسمًا لمظلومي الأرض، وبشارةً للفائزين في السماء.

هي إهداء إلى السيدة زينب الكبرى، عقيلة بني هاشم، وشاهدة الدهر على عظيم المصاب وجليل الصبر.

كان لي صديق من أهل السنة، جمعتني به صحبة وثيقة حتى أنه كان يشاطرني حضور مجالس عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، ويرافقني أحيانًا في رحاب زيارة الأئمة النجباء.

وبعد مضي زمن، باح لي بسر دفين في صدره، مؤكدًا لي أنه يخوض غمار البحث عن الحقيقة، متجردًا من كل قيد، ومن خلال انغماسه العميق في كل ما نزاوله من مجالس وعظ، ومحاضرات هادية، ومراسم إحياء ذكرى الفاجعة، وزيارة قبور الأئمة الطاهرين.

وبعد طول تمحيص وتدقيق، أعلن لي عن يقين راسخ اعترى قلبه، بأنه قد اهتدى إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، لكنه استوصاني كتمان هذا السر بيننا حتى يحين الأوان.
كان يساوره تحفظ حيال بعض الأسس الجوهرية في معتقدنا، أمور كان يقول إنها لم تلامس شغاف قلبه، أو أن الفكرة لا تزال مبهمة أو ربما يكتنفها بعض الغلو، وتحديدًا قضية الإمامة كشرط لازم للإيمان.

كنا نعقد جلسات حوار معمقة مع ثلة من أهل العلم، بغية تبيان مختلف جوانب المذهب وإزالة ما علق في ذهنه من شبهات.

لقد كان حريصًا أشد الحرص على استيعاب كل لفظة ومعنى، حتى أني كنت أحيانًا أداعبه قائلًا: كيف لك أن تتشيع وكل هذا الوسواس يعتريك؟ فيجيبني بجدية: يا أخي، ليس وسواسًا ما تراني فيه، بل هو محض الدين، ألستم ترددّون دومًا: “اسألوا عن دينكم حتى يقال عنكم مجانين”؟

فتعلو ضحكاتنا. كنت أغبطه على هذا الحرص المتناهي على دينه، وعلى صبره الجم في البحث والتعلم. كنت أسأله عما استشكل عليّ فهمه، فأجده في كل يوم يزداد رسوخًا في المعرفة، لكن في كل مرة كنت ألمح عنده بقايا ذلك التحفظ على مسألة الإمامة. ومهما استرسل في السؤال والاستيضاح، كان يردد: لا أريد استزادة حتى يأتيني الجواب الشافي الذي يلامس أعماق الروح ويهز وجداني.

شاءت أقدار الغياب أن تفرق دروبنا في زحمة الحياة، لكن ظلت خيوط التواصل الودي ممتدة بيننا في المناسبات المختلفة، وربما جمعتنا الظروف عابرةً في زيارة صديق مشترك أو مشاركة في فرح أو عزاء. وكنت قد نسيت أن أسأله عن ذلك الوصل الروحي الذي كان ينشده، والذي لم أجد له تفسيرًا لديّ سوى تلك الخلفية الفكرية التي نشأ عليها في معتقده السابق. لكني آثرت الصمت حيال ذلك، حفظًا لمشاعره وتقديرًا لخصوصيته.

لكن المفاجأة حلت اليوم حين طرق بابي، يحمل بين يديه باقات من الرايات الحسينية، وقد خط عليها “يا زينب” بخط يقطر أسىً وولاءً. كان يطرق الأبواب المجاورة ويوزعها مجانًا على المارة والجيران، مرددًا بصوت خفيض مملوء بالخشوع: “هذه بثواب زينب المظلومة”. ويمضي إلى البيت الذي يليه ويفعل الفعل ذاته.

وكنت أنا واحدًا ممن طرقت بابه يده تحمل تلك الرايات المباركة، فتبسمت ودعوته إلى منزلي لاحتساء الشاي وتبادل أطراف الحديث، ولأسأله عن أمرين حيّرا فكري: أولهما أنه لم يعلن تشيعه رسميًا بعد، فكيف له أن يقوم بهذا الفعل العلني؟ وثانيهما أنه كان بالأمس القريب يبدي تحفظًا على قضية الإمامة، فكيف له أن يقتنع بما يلازمها من نصرة لمظلومية زينب؟

فأجابني بصوت خافت وقد غلبه التأثر: يا أخي، لا أدري ما أقول على وجه التحديد، ولكني لست من أهل السياسة ولا ممن يقتفي أخبارها، ولكن حين بلغني نبأ أولئك الذين تجرأوا على إنزال راية السيدة المظلومة زينب،

طار فكري كله إلى كربلاء، وإلى مجلس يزيد الطاغية، وإلى موكب السبايا. فكان كل ما تداخل في نفسي من تساؤلات، وربما بعض الشكوك العابرة، وجدت جوابه الشافي في الإمامة. إن من لا يقر بالإمامة الحق، لا يملك حقيقة الإيمان.

وما كل هذا الصراع الدائر على مر العصور إلا لأجل الإمامة الحقة.

زينب كانت الشاهد الأمين على فاجعة الطف، والشاهد الصادق على كل ذلك الانحراف الذي لحق بالأمة، واليوم هي الشاهد الحي على كل هذا النفاق المقنع برداء الدين، والشاهد الصامت على كل هذا الكفر المتستر بستار الإيمان، لأنهم إذ جحدوا الإمامة الحق، فقد فارقتهم روح الدين وحقيقته، وآية القبر وحدها كفيلة بفضح أفعالهم الدنيئة.

حتى قطعة قماش كتب عليها اسم زينب لم يحتملوها، فكيف لهم أن يحتملوا الإمامة التي هي عمود الدين وركنه الركين؟ الإمامة هي شرط الإيمان، وهي الفرقان الذي يميز الحق من الباطل.

لله درّك يا زينب!

كيف غاب عن فهمي هذا المعنى الجلي، أو لعلي فهمته بمعنى آخر خفي، هو العداء المستحكم لآل بيت النبوة؟

ولكن ما سمعته وطرب له وجداني من عرفان باحث عن الحقيقة، لهو أبلغ دليل: زينب تخيف النواصب وهي في قبرها! كيف يجرؤون على القول بأنها ماتت؟

بل ماتت ضمائرهم، وانطمست بصائرهم، وقُتلت إنسانيتهم، بل هم كالأنعام بل أضل سبيلًا… وقد فهمتُ الآن المنطق الذي يتلائم مع مرحلة صحوة حقيقة الإنسان بخلافته على الأرض، والذي يراعي في هذه القصة التسلسل الطبيعي لهداية التقوى والإيمان من خلال تفعيل التشيّع بالسبل العملية واليقينية (“لأن آمنوا وعملوا الصالحات”) لا النسبية فحسب، وشتان بين الأمرين.

فالعبرة هي الوصول إلى المبتغى المراد، وذلك بالجهد اليقيني البعيد عن الضوضاء الموهومة. فليوطّد المرء نفسه على أنه كلما ازداد يقينه بالولاية، كلما تداعت عليه الأعداء، وبهذا لا ترسو الأمور والمسالك على أصل الانتماء فحسب، بل على أصول فهم صراط الأولياء (“اهدنا الصراط المستقيم”).